رؤى

قراءة المقروء.. وكتابة المكتوب

عندما سئل فرانز كافكا عن نوعية الكتب التي تستحق القراءة أجاب “تلك التي تخلف فيك جراحا وطعنات، فلا تكلف نفسك عناء قراءة كتب لا تشعر حين تستيقظ بعد قراءتها برأسك كمن مر من توه بانفجار.. يجب أن يكون الكتاب فأسا للبحر المتجمد فينا”.

ربما تضع كلمات كافكا من قرأها في حيرة كونه لم يشعر بما يماثل هذه المشاعر رغم  مداومته على القراءة، فمعظم الكتب المتداولة لا تبعث في نفوس قرائها أحاسيس بمثل هذا العمق، لعل البعض يُرجع هذه المشاعر التي اختلجت في نفس كافكا إلى حساسيته كأديب من ألمع أدباء عصرنا، لكن السبب الرئيسي لا يعود إلى هذا العامل وإن كان لا يمكن إنكار أثره.

الجراح والطعنات والانفجارات التي يصفها كافكا لا مجال لحدوثها ما دام الواحد منا لا يقرأ إلا المقروء، فما أقرأه أنا قرأته أنت، وقرأه صديقك قبلك. يرجع ذلك إلى أن النص المقروء واضح لا لبس فيه، محكم لا شبهة أو غموض به، لذا ففاعلية القارئ إزاءه معدومة، وأي قراءة للنص تتطابق معه، فهذا يعني أنه قرأ من قبل.

هذه النوعية من الكتب تطرح ما لديها مرة واحدة وللأبد، لا يفسح كاتبها للقارئ أن يستكشف أو يستنبط أو يؤول، أن يطرح سؤالا أو يلقي بتعليق، بخلاف نوع آخر من النصوص، يمثل نسقا مفتوحا، مولد دائم للمعنى، يتوجه أصحابه إلى قراء على درجة من الثقافة، ليدعوهم  لاستثمار ثقافتهم في سبر غور النص، وأن يساهموا في صياغة المعنى، حتى لربما يساوي أثر القارئ في بعض النصوص أثر المؤلف. النص كلما زاد غموضه واتسعت مساحة التباسه (لا عبر بهرجة البلاغة بل لدقة وعمق المعنى وتعدده) كلف القارئ جهدًا أكبر ودراية أوسع وثقافة أعمق، والنص بذلك لا يكتمل إلَّا به، ما يزيد من فاعلية القارئ بحيث لا يكون مجرد متلقٍ أو منفعل، بل لا ينفك يحاول “سد نقص” العمل أو بتعبير جيل دولوز “جعل النص ممتدا”.

هذا الجهد الذي يصرفه القارئ لإدراك المعنى أو تؤويله  يمنحه إحساسا يشارك فيه الكاتب عبر رحلة لاستكشاف المعاني المثيرة للدهشة، والصور الباعثة على التساؤل، والتفكر في مساحات بكر لم  يبلغها القارئ من قبل، وهو ما تفيض به النصوص الخالدة.

لهذا كله لا قدرة للقارئ محدود الثقافة على أداء تلك المهمة؛ لأن الغموض ينفره، والالتباس يصده، فيهجر النص الموشى بالغموض إلى النص الواضح كل الوضوح، ولعل مثل هذا القارئ هو ما دعا نيتشه إلى القول بأنه “إذا أعطي الحق في تعلم القراءة لكل إنسان، فإن هذا سيُفسد مع الوقت، لا الكتابة فحسب، بل والفكر أيضا”.

وللحصول على نص يستحق القراءة، نص يخلف جراحا وطعنات ويكون فأسا للبحر المتجمد فينا على حسب نصيحة كافكا، فهذا يتطلب كاتبا من طراز فريد يمنح نصه كامل إمكانياته وحيويته، يستعمل ـ بتعبير شوبنهاور ـ كلمات الناس العادية ليقول بها أشياءً غير عادية، لكن إعطاء الحق في الكتابة لكل أحد جعل غالب النصوص المنشورة نصوصا مكتوبة سلفا.

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock