فن

The Wages of Fear .. إبداع سينمائي يستعصى على النسيان

رغم معوقات كثيرة صادفت تصوير الفيلم، مثل كسر كاحل المخرج أثناء التصوير، وأمطار غير مسبوقة في تاريخ الجنوب الفرنسي تسببت في تدمير عدد من الأجهزة، ودرجة الحرارة المرتفعة، إلا أن النتيجة النهائية كانت فيلما يمثل علامة في تاريخ السينما العالمية.

يبدأ فيلم The Wages of Fear (1953) بلقطة ذات دلالة لصبي يقوم بتعذيب الصراصير في الشارع، وعندما يسمع من بعيد صوت بائع حلوى يجول بعربته، يهرول إليه في لهفة للحصول على بعض الحلوى، لكنه لا يجد معه ما يكفي لدفع ثمنها. وفي الوقت الذي يدرك فيه الطفل هذه الحقيقة، ويعود إلى صراصيره لاستكمال تعذيبها، يكتشف حقيقة أخرى، وهي أن بعض الطيور قد انقضت عليها والتهمتها؛ ليرسم مخرج الفيلم، هنري جورج كلوزو (1907 – 1977)، بذلك صورة سوداوية للعالم الذي نعيش فيه كحلبة صراع يأكل القوي فيها الضعيف، وكسجن يطبق على الفقراء اليائسين من الهرب.

تدور أحداث الفيلم حول أربعة أوربيين محبوسين في مدينة صغيرة ومعزولة من مدن أمريكا الجنوبية، لا يملكون ثمن تذكرة الطيران للخروج منها. في هذه الأجواء المتوترة تعرض عليهم شركة نفط سيئة السمعة، تقوم أغلب أعمالها على الرشوة والفساد، دفع 2000 دولار لكل فرد منهم مقابل نقل شحنات من مادة النيتروجلسرين شديدة الانفجار في شاحنتين عبر مناطق ذات تضاريس شديدة الوعورة إلى حقل غاز مشتعل. يعلم الأوربيون الأربعة تماما أن المهمة التي يقبلون عليها أقرب إلى الانتحار بسبب طبيعة الطرق الوعرة، ودرجة الحرارة المرتفعة التي قد تتسبب في انفجار الحمولة قبل الوصول إلى حقل الغاز.

يمنح مخرج الفيلم المشاهدين فترة كافية قبل أن ينتقل بهم إلى الطريق؛ فيستغرق كلوزو نحو ساعة كاملة يسبر فيها أغوار العالم العبثي اللا أخلاقي الذي تسكنه شخصيات الفيلم، فيما يعرض في الوقت ذاته على مهل لبعض خلفياتهم.

يصاحب الفتى المستهتر السادي، الذي جسد دوره الممثل الفرنسي – الإيطالي إيف مونتان، رجل العصابة المسن – الذي قام بدوره الممثل الفرنسي، شارل فانيل – في قيادة إحدى الشاحنتين، لكن تبقى دائما مسحة من الغموض تكتنف علاقتهما تجعلنا لا نطمئن أبدا إلى صدق هذه العلاقة. ويركز مخرج الفيلم على خلق عالم كئيب وسوداوي، يتسلل إلينا بهذه الفكرة بطريقة منطقية لا تشعرنا بالمبالغة، وتجعلنا نقنع بأن هؤلاء الشخصيات سيقدمون على المغامرة بحياتهم من أجل المال. وتعرض التسعون دقيقة الأخيرة من الفيلم – الذي تزيد مدة عرضه على ساعتين ونصف – لمشهد تحرك الشاحنتين عبر الطرق الترابية الوعرة بين أكثر الدقائق إثارة في تاريخ السينما العالمية.

تأتي جميع مشاهد الفيلم مفعمة بالمشاعر، وهي السمة التي تميز أعمال كلوزو، الذي يبدو دائما كأنه يزدري الإنسان بوجه عام، ويدرك تماما أنه – عاجلا أم آجلا – ستتجلى منه أسوأ صفاته. لكن التناقض الإبداعي يكمن في أن هذه الشخصيات الشريرة تصبح جميعها شخصيات بطولية لأنها خالية من المشاعر في رحلتها نحو الموت. تنتقل الصورة طوال الوقت بين أربعة وجوه عابسة (إيف مونتان وفولكو لولي وشارل فانيل ويتر فان إيك). وبرغم أننا نعتمد عليهم طوال الوقت للوصول بالرحلة إلى بر الأمان، لكننا نعي طبيعة المهمة التي يقومون بها.

لطالما نظر النقاد إلى المخرج الفرنسي هنري جورج كلوزو (1907 – 1977) باعتباره “هيتشكوك الفرنسي”. وبرغم أنه مخرج أفلام التشويق والإثارة الأول في فرنسا حتى يومنا هذا، لكنه لم يخرج فيلما يتسم بالطول والإثارة التي اتسم بهما هذا الفيلم. ويعتبر كثير من النقاد هذا الفيلم – إلى جانب فيلم Les Daiboliques – الأساس الذي تكونت عليه السمعة العالمية التي حظي بها كلوزو كأحد أعظم مخرجي أفلام الإثارة، وذلك برغم الصعوبات التي واجهها إنتاجه، والنغمة الكئيبة التي حصرت موسيقى الفيلم في صوت أزيز المحركات.

بدأ تصوير الفيلم في أغسطس 1951، وكان من المفترض أن يستمر لمدة تسعة أسابيع، لكن لسوء الحظ، صادف الجنوب الفرنسي آنذاك فصلا مطيرا بدرجة غير مسبوقة  تسبب في تعثر الشاحنات أكثر من مرة المستنقعات، وفي سقوط الرافعات، وتحطم الأجهزة؛ ما أدى إلى زيادة ميزانية الفيلم بصورة كبيرة. ومع اقتراب فصل الشتاء، وتراجع عدد ساعات النهار، اضطر المخرج إلى وقف التصوير لمدة ستة أشهر. ومما زاد الأمور سوءا أن الاتفاق المبدئي كان على تصوير الفيلم في أسبانيا، لكن مونتان رفض ذلك بسبب وجود فرانكو على رأس السلطة، ما أدى في النهاية إلى نقل موقع التصوير إلى جنوب فرنسا. لم يكتمل تصوير الفيلم إلا في صيف عام 1952، لكن النتيجة النهائية كانت عملا فذا وراسخا في تاريخ السينما العالمية.

هذه المقالة هي بالأساس ترجمة لمقالة بجريدة الإندبندنت

مشهد الإنفجار

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock