منوعات

خطاب الكراهية.. شبح الماضي يسكن الحاضر

يؤرخ شهر أبريل الجاري لذكرى مرور خمسين عاما على خطاب “أنهار الدم” Rivers of Blood، الذي ألقاه السياسي الإنجليزي المحافظ، والفيلسوف والأديب الكلاسيكي، إينوك باول، في 20 فبراير 1968، وانتقد فيه بقوة عمليات الهجرة الجماعية إلى إنجلترا. وصفت صحيفة The Sunday Times الخطاب – الذي تسبب في عاصفة سياسية على مستوى الحكومة والشارع، أطاحت بباول نفسه من حكومة إدوارد هيث – بأنه “عنصري”، و”ينطق بحكمة الغوغاء”.  

اليوم، تلوح في الأفق نذر عاصفة جديدة، بعد أن أعلن راديو BBC 4 إذاعة الخطاب كاملا (بصوت أحد الممثلين) يوم 20 أبريل احتفالا بيوبيله الذهبي، ويتجدد السؤال: هل يعبر “أنهار الدم” عن حدث تاريخي أم عن ثقافة حياتية حاكمة؟

أبدع باول عبر هذا الخطاب في تسخير قدراته اللغوية والفلسفية لرسم لوحة مفزعة لكارثة ديموغرافية توشك أن تحل بالأمة البريطانية بسبب تيارات المهاجرين. وتجلت مهارته الخطابية عندما قدم خطابه اليميني كسفينة النجاة الوحيدة للأمة البريطانية وسط أمواج “أنهار الدم” المتلاطمة. ولا يزال البريطانيون يذكرون النبؤة التي أعلنها باول في هذا الخطاب على لسان أحد أبناء دائرته في مدينة ولفرهامبتون بأنه “في غضون 15 أو 20 عاما، سيحمل السود السياط، ويلهبون به ظهور البيض”.

أجرى معهد “جالوب” دراسة مسحية في العام نفسه أكدت أن 74% من المواطنين الذين تم استطلاع آرائهم يتفقون مع العاطفة التي ينطوي عليها الخطاب. ويفسر المنظر السياسي البريطاني، جورج بيرنشتاين، تدفق الطبقة الوسطى على تأييد هذا الخطاب بأن باول قدم نفسه باعتباره “أول سياسي بريطاني يصغي إلى الشعب”. رغم ذلك، لا يمكن أن نغفل الدور المحوري الذي قام به عدد من الناشطين الفاشيين في هذه التعبئة من أمثال دينيس هارمستون، وجماعة Moral rearmament اليمينية المتشددة.

في هذا السياق، يتكرر سؤال جديد قديم: “لماذا تعمد الثقافة البريطانية دائما إلى إغفال دور المؤسسة اليمينية الرسمية المتشددة عند تحليلها لاضطرابات الشارع، وتنزع إلى تفسيرها على أنها مجرد فورات شعبوية؟

يقول المفكر الكاريبي، ستيوارت هول، في مقاله التحليلي The Great Moving Right Show: “لقد خسر باول، بينما انتصرت مبادئه”. لكن الآثار التي خلفها خطاب باول كانت أعمق بكثير من مجرد تحقيق أهداف تشريعية. يضيف ستيوارت هول: “لقد خلق ’أنهار الدم‘ روابط سحرية بين قضايا العرق والهجرة من جانب، والصورة الذهنية للدولة، والشعب البريطاني، وتدمير ’ثقافتنا‘ و’طريقتنا في الحياة‘ من جانب آخر”، وتجذرت هذه الصورة في اللاوعي الوطني منذ ذلك الحين.

على غرار المرضى العُصابيين الذين كانوا يترددون على عيادات فرويد، غدت السياسة البريطانية مصابة بالوسواس القهري. ترى شبح إينوك باول في تحذيرات مارجريت تاتشر من “غرق البلاد تحت ركام موجات هجرة شعوب الكومنولث”، وفي هاجس قانون ’العمل الجديد‘ وعلاقته بقضايا اللجوء في الولاية الثانية لتوني بلير.

وبينما سيشهد الاحتفال باليوبيل الذهبي في 20 أبريل من هذا العام اصطفاف السياسيين من كافة الأطياف للتنصل من خطاب ’أنهار الدم‘، يواصل خطاب الكراهية والتوتر العنصري وهواجس نهاية بريطانيا اختراق الجسد الثقافي عبر كافة الأطياف السياسية. ويقدم الصعود المطرد للخوف المرضي من المهاجرين (anti-immigrant xenophobia) دليلا دامغا على أن البرلمان البريطاني لا يزال يعج بصور مستنسخة من باول، ولا يزال تحكمه قيم متطرفة لا تعبر عن توجهات ليبرالية.

لماذا تواصل هذه الصورة الذهنية فرض سلطانها على السياسة البريطانية؟ للإجابة على هذا التساؤل يتعين علينا العودة إلى ’أنهار الدم‘، والاستماع جيدا إلى كل ما لم يقله باول. كان باول حريصا على أن يؤكد أنه “لا شيء أكثر تضليلا من المقارنة بين مهاجري الكومنولث في بريطانيا والزنوج الأمريكيين في الولايات المتحدة؛ حيث كان وجود السود في أمريكا سابقا على تأسيس الدولة الأمريكية”.

في المقابل، لم يقل باول إن مهاجري الكومنولث كانوا مجموعة من المتطفلين الأجانب المثيرين للدهشة؛ إذ تظل الأسباب التي دفعت بأفراد وعائلات إلى السفر عبر نصف مساحة العالم غامضة ومستعصية على الفهم. وبعيدا عن بعض الاستعارات الرومانية في الخطاب، لم يذكر باول أيضا كلمات من قبيل ’الإمبريالية‘ و’الإمبراطورية‘.

في هذا الإطار نلمح تعبيرا مزدوجا عن النوستالجيا. أولا، باعتبارها حنينا مستحيلا إلى وطن لم يكن موجودا بالأساس “كيان أبيض متجانس ذو سيادة، في صورة مجموعة جزر يكتنفها بحر الشمال جغرافيا واجتماعيا”. وثانيا، باعتبارها آلاما خلفتها العودة إلى الوطن “صدمة الهجرة وليست صدمة الغزو”. كما يجنب غياب كلمة ’الإمبراطورية‘ عن الخطاب الوعي البريطاني مؤنة الإجابة عن سؤال شائك حول ما إذا كانت بريطانيا – التي لا تزال تندب خسارتها لمستعمراتها – مَدينة لرعاياها السابقين.

النوستالجيا السياسية لا تمت بصلة إلى الحنين إلى الظلال الوارفة، أو إلى أيام الصيف في زمن الطفولة، هي جرح لا يندمل، وشعور دائم بالخوف من الغزو، ليس غزو المهاجرين، وإنما غزو التاريخ لرواية ’ماضينا المثالي‘ الزائفة. هذا هو المحك الأساس. لا يجب الاحتفاء بـ ’أنهار الدم‘ كتحفة أثرية رائعة، لأنه في واقع الأمر خطاب لا يزال يشكل الثقافة البريطانية حتى يومنا هذا. هذه هي آلام العودة إلى الوطن.. أن نشعر أننا جميعا أبناء إينوك باول.

هذه المادة مترجمة

اعتداء عنصري ضد الأجانب في بريطانيا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock