منوعات

جمال عبد الناصر .. شغف القراءة

من الأمور التي شاعت عن الرئيس جمال عبد الناصر ولعه بالسينما واهتمامه بالتصوير السينمائي الذي مارسه بنفسه، سجل رجل المخابرات الروسي فاديم كيربتشنكو ذكرياته عن مصر في كتابه «المخابرات ـ وجوه وشخصيات»، وذكر الكاتب ما جرى خلال زيارة عبد الناصر الأولى للاتحاد السوفيتي في عام 1958 حين وجه نيكيتا خروتشوف قائد الاتحاد السوفيتي حينذاك سؤالاً إلي عبد الناصر: كيف تقضي أوقات فراغك؟، وأجابه عبد الناصر بقوله: في ساعات الفراغ القليلة أمارس التصوير السينمائي، ودار نقاش حول الموضوع، وقال خروتشوف إن أفلام التصوير السينمائية الملونة تبدو أجمل بكثير من الأبيض والأسود، وكان رد عبد الناصر تلقائياً ومفاجئأ: «لكن أفلام التصوير الملونة غالية عليَّ».

لفت الكاتب الكبير كامل زهيري نظري إلى أن الأستاذ محمد حسنين هيكل كان يتعمد كتابة مقاله الشهير «بصراحة» على فورمة «السيناريوهات»، وهي طريقة تعجب عشاق السينما كعبد الناصر، فاقترب منه بهذه الطريقة، وهو الذي قال لي مرة  وأنا منغمس في التحضير لكتابي “الرئيس والأستاذ” عن تجربة هيكل مع الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات: الفارق الأهم بينهما والذي أثر على علاقة كل منهما مع هيكل، أن السادات لم يكن يهوى القراءة بينما كان عبد الناصر  “من مشاهير القراء”.

لم تكن تلك المرة الأولى التي ألتفت فيها إلى شغف عبد الناصر بالقراءة، وحين تعرفت عن قرب بالسفير محمد وفاء حجازي، عمل مديراً لمكتب عبد الناصر  إبان عمله وزيراً للداخلية في أوائل أيام الثورة، ذكر لي اهتمام عبد الناصر بقراءة كتاب «الدولة بين النظرية والتطبيق» من تأليف «هارولد لاسكي»، وقرر بعد أن فرغ من قراءته أن يجري توزيعه على العديد من قيادات الصف الأول ليقرأوه.  كتاب آخر لفت نظر عبد الناصر مبكراً إلى الكاتب والمستشرق الإنجليزي «أنتوني آشلي بِيفان» حين قرأ  كتابه «بدلاً من الخوف» فحرص عبد الناصر على أن يكون بيفان أحد كتاب جريدة «الجمهورية» التي كان هو صاحب امتيازها لدى إنشائها في بدايات الثورة.

لم تقتصر قراءاته على العلوم العسكرية، وعندما أراد الكاتب السويسري «جورج فوشيه» أن يكتب عنه كتابه الشهير «جمال عبد الناصر ورجاله ـ رفاق الكفاح في سنوات المواجهة»، والذي يعد من أفضل المراجع التي تناولت شخصية عبد الناصر ودور تنظيم الضباط الأحرار، ذهب إلى مكتبة الكلية الحربية واطلع على كشف الاستعارات، ومن خلاله اكتشف أن الطالب جمال عبد الناصر كان يقرأ لكُتاب متنوعي الاهتمامات من بينها كتابات لكل من ليدل هارت، واللنبي، وتشرشل.

تبدى اهتمام عبد الناصر في شبابه بالاطلاع على أسرار السياسة المصرية، ومن الكتب التي ثبت قراءته لها في تلك الفترة الباكرة من شبابه كتاب أحمد حسين «الأزهر ودوره الوطني»، وكتاب محمود أبو الفتح «الوفد كحركة وطنية»، وكان من بين أكثر الكتب تأثيراً فيه رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم.

كان اهتمام عبد الناصر بالثقافة يتبدى أكثر في تنوع قراءاته، التي لم تهمل كتب الأدب بما فيها الروايات العالمية. شهادة مثقف كبير مثل كامل زهيري نقيب الصحفيين الأسبق تؤكد لنا أن «أهم مميزات عبد الناصر التي لمستها أنا بنفسي أنه كان قارئاً محترفاً وعندما ذهبت إليه في بيته وجدت في مكتبته مئات من الكتب الهامة لتاريخ مصر، حتى الكتب التي كان قد استعارها أيام كان طالباً كلها من أمهات الكتب».

فوجئ كامل زهيري حين ترأس مؤسسة «دار الهلال» أن عبد الناصر يراجع ما ينشر مترجماً على الأصل الذي ترجم منه، واتصل به سامي شرف مدير مكتب الرئيس للمعلومات ليبلغه أن “الريس” يطلب الاهتمام بسلسلة «روايات الهلال» ويشير إلى أنها غير مطابقة للأصل المترجمة عنه، وأن بعض الروايات المنشورة في السلسلة ليست كاملة، وطلب نشر نصوص الروايات، ومنذ ذلك الوقت ظهرت على أغلفة روايات الهلال عبارة «النص الكامل للرواية».

يذكر العديد ممن حضروا وقائع الأيام الأولى للثورة حين احتد النقاش حول مصير الملك فاروق، وكان بعض الضباط الأحرار يرى ضرورة محاكمته وإعدامه على عكس الرأي الذي تبناه عبد الناصر وعدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وكان يقول لأصحاب الرأي المخالف: ولماذا نحاكمه ما دمتم أصدرتم الحكم مسبقاً بإعدامه؟، وقال لهم محذراً: يا جماعة اقرأوا «قصة مدينتين»، الدم سيأتي بمزيد من الدماء.

يقول هيكل وهو أحد شهود الواقعة: شعرت أنني أمام إنسان قرأ رواية، وتقبل التعبير الذي تقدمه، ووصل إليه الرمز الذي فيها وفهمه، وبقي موجوداً في وعيه، وعبر عنه في لحظة معينة. عبد الناصر في رواية هيكل قرأ الكثيـر جـدًا، وكان يحرض من حوله على القراءة ويوجه بإرسال بعض الكتب أو الملخصات إلى زملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة. ويقول هيكل إن بعض الكتب كانت تلفت نظر جمال عبد الناصر بطريقة تشعر معها أنها تركت أثراً في نفسه.

ويتابع هيكل: “أتذكر مرة كتابًا عن تروتسكي من ثلاثة أجزاء، كتبه اسحق دويتشير أستاذ التاريخ السوفييتي في جامعة هارفارد وقتها، وأعطاه لي عبد الناصر، الجزء الأول كان عنوانه: «النبي الأعزل،» والثاني عنوانه: «النبي مسلحاً»، والثالث عنوانه «النبي منبوذاً»، أو «النبي في المنفي». أعطاني الرئيس الأجزاء الثلاثة، وقال لي اقرأهم، ووجدت بخطه علامات على الجزء الأول”.

كان عبد الناصر ينصت باهتمام كبير إلى هؤلاء الذين يحدثونه في شئون أخرى غير السياسة، وذلك أحد الأسباب التي قربت إليه السفير جون بادو سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى القاهرة، وكان يتقن العربية، وأثار هذا القرب من الرئيس سفير الاتحاد السوفيتي ما جعله يشير إلى المسألة مع عبد الناصر الذي أفهمه أن معظم المقابلة مع السفير الأمريكي تتطرق إلى دردشات عامة وأنها لا تكون بالضرورة ذات طبيعة سياسية أو دبلوماسية.

وحين زاره الفيلسوف والمفكر الفرنسي الشهير أندريه مالرو في مكتبه استهل حديثه مع جمال عبد الناصر بمدخل من تاريخ مصر، وراح لمدة ساعة كاملة يتحدث عن الحضارة المصرية القديمة، وانتقل منها لخمس دقائق إلى الحضارة الصينية القديمة، ثم نظر في ساعته واكتشف أنه نسي نفسه في حديث الثقافة، فحاول أن يعتذر لكي ينتقل إلى أحاديث السياسة، وطمأنه عبد الناصر إلى أنه يسمع سياسة طوال أربع وعشرين ساعة كل يوم، وأنه سعيد بهذه الجولة التي طاف به مالرو خلالها بالحضارات القديمة.

السادات على العكس، كان “مالوش خلق على القراءة” حسب تعبير سكرتيره الخاص فوزي عبد الحافظ الذي اشتكى مرة للأستاذ أحمد بهاء الدين من أن الرئيس لا يقرأ التقارير التي ترفع إليه من أجهزة الدولة المختلفة، وقال: ” أنا بأحط له التقارير على الكمودينو جنب السرير كل ليلة، لكن يفضلوا يزيدوا كل يوم لحد ما يبقوا عشرين تقريرا وبعدها يقول لي: “شيلهم بقى لازم الحاجات اللي فيها بقت قديمة”. وعلى حد قول سامي شرف: كان السادات يعتقد جازماً أن «عبد الناصر مات من كثرة القراءة».

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock