فن

صفحة من تاريخ “الخلافة”.. يتجاهلها الإسلاميون (3-3)

اشتهرت المدينة المنورة جدا بالسماع، ويبدو أنها كانت حالة عامة أثارت القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، وكان عراقيا يميل للتشدد في الغناء، فلما التقى إبراهيم ابن سعيد الزهري بادره مستنكرا: ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني، ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها. قال الزهري: فغضبت، وقلت: قاتلكم الله يا أهل العراق، ما أوضح جهلكم، وأبعد من السداد رأيكم.. متى رأيت أحدا سمع الغناء فيظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر فيترك أحدهم صلاته، ويطلق امرأته، ويقذف المحصنة، ويكفر بربه، فأين هذا من هذا، من اختار شعرا جيدا ثم اختار جرما حسنا فردده عليه فأطربه وأبهجه فعفا عن الجرائم وأعطى الرغائب؟ .. فقال أبو يوسف: “قطعتني”، .. ولم يحر جوابا.

يروي ابن عبد ربه موقفا آخر للزهري، إذ سأله هارون الرشيد يوما: من بالمدينة ممن يحرم الغناء؟ فقال الزهري: من قنّعه الله بخزيه، قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه، قلت “يا أمير المؤمنين أوَ لمالك أن يحرم ويحلل؟ والله ما كان ذلك لابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه… ولو سمعت مالكا يحرمه وتناله يدي لأحسنت أدبه”.. فتبسم الرشيد.

هذا الحوار يشير ضمنا إلى أن الغناء وسماعه كان حالة عامة، وأن التشدد والتحريم كان استثناء، فالرشيد يسأل عمن يحرم، والسؤال يكون عن النادر والقليل، ولو كان المنع هو السائد ما سأل الرشيد عنه.

أما في مكة، فلم يكن الشأن يختلف كثيرا، فالغناء مقبول منتشر مطلوب، لاسيما بين الوجهاء والفقهاء وذوي المناصب. وفي العقد الفريد يورد ابن عبد ربه أن الأوقص المخزومي وليَ قضاء مكة، فما رؤي مثله في العفاف والنبل، فبينما هو نائم ذات ليلة في علِّيّة له، إذ مر به سكران يتغنى ويلحن (يخطئ) في غنائه، فاقترب المخزومي منه وقال: يا هذا، شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنيت خطأ، خذه عني، فأصلحه عليه. فقاضي مكة ليس فقط من هواة السماع، بل هو من حفاظ الألحان المتقنين، يصوب للسكران المخطئ.

ويروي ابن عبد ربه: قال أحمد بن جعفر: حضر قاضي مكة مأدبة لرجل من الأشراف، فلما انقضى الطعام اندفعت جارية تغني… فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب، حتى أخذ نعليه وجثا على ركبتيه: وقال اهدوني فإني بدنة.. (أي اذبحوني كالأضحية التي يذبحها الحجاج).

من هذه البدايات الراسخة، تراكمت الخبرة الغنائية، والحذق الموسيقي، وبلغ الفن ذروته أيام بني العباس، سواء في اختيار النصوص، أو التلحين، أو الغناء، أو العزف على العود، أو حتى في التنظير الموسيقي، والجدل حول التطوير والتجديد.

وقد رأى فارمر أن “موسيقى الحجاز وغناءه في صدر الإسلام كانت الرصيد الأساسي للغناء العربي التقليدي”.. الغناء الذي استمرت الأجيال في مراكمته، ومثل القاعدة الصلبة للنهضة الموسيقية الحديثة التي بدأت منتصف القرن الثامن عشر، وحتى سبعينات القرن العشرين.

أما الناقد الفني الكبير كمال النجمي، فيرى أن “التاريخ العربي قد سجل أن الغناء يتمتع بالمنعة والاحترام إذا قويت الدولة العربية وبسطت سلطانها، فلا يجرؤ أحد أن يَتقَحَّم عليه أو يفض مجالسه، فإذا جاءت عصور التدهور القومي والاجتماعي والسياسي، اجترأ على الغناء أوشاب الناس وجهلاؤهم، وعابه وانتقص منه السفهاءوالعيارون والشطار والغلمان والأحداث”.

لسنا إذن أمام واقعة فردية يرويها كتاب تراثي، ولا واقعة صغيرة يختلف المؤرخون حول ثبوتها.. فانتشار الغناء والموسيقى والحفاوة بهما في دولة الخلافة الإسلامية عبر عصورها المختلفة هي من الوضوح والثبوت بما يستحيل معه الإنكار، ولا يجدي إزاءه التجاهل.. لكن هذه الصفحة من التاريخ تزعج كثيرا تيارات الغلو الديني، الذين يقيمون خطابهم على أساس مخالفة الواقع الحالي للإسلام، بل إنهم يجعلون من احتفاء الجماهير بالفن سببا للضعف والتراجع والهزائم، وهو ما تنفيه حقائق التاريخ.

هيثم أبو زيد

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock