رؤى

التدين اللطيف وأهواء المتدينين

الدين أمر إلهي أعلى متجاوز للإنسان وللزمن والمكان، وهو وحي الله المنزل من السماء إلى رسله لهداية البشر وأخذهم ليكونوا كما أراد الله لهم عبادا له يهتدون بهديه ويحققون ما يريده منهم.

بيد أن التدين هو حالة الإنسان نفسه في تطبيقه الواقعي للدين فهما وسلوكا وحركة، وفي الحديث “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه” يعني ممكن أن تسخط دين فلان أو تكرهه، وهنا الدين ليس المتجاوز للإنسان، وإنما التدين وحالة الإنسان في ممارسته للدين وتطبيقه له.

الناس في تطبيقهم للدين ليسوا على درجة واحدة، فبعضهم يلتزم النص كما هو ويحاول أن يحققه كما جاء، هؤلاء هم السلفيون بتنويعاتهم المختلفة وطرائقهم المتباينة، بصرف النظر عن الخلافات الداخلية بينهم فهم جميعا ظاهرية يأخذون المستوى الأول من النص ويذهبون لتطبيقه. تجدهم يهتمون بما يُطلق عليه الهدي الظاهر، وهو مصطلح يشير إلى الالتزام بتدين ظاهر يبدو مع الإنسان من المظهر معبرا عن سيرة النبي صلي الله عليه وسلم في مظهره الخارجي، وقد اهتموا بإطلاق اللحى وتقصير الثياب والنزوع لارتداء الملابس البيضاء وذهب بعضهم لتطويل شعره حتي يضرب منكبيه، وآخرون تجدهم يكحلون أعينهم.

هناك آخرون يركزون في تدينهم على قضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيبدأون في اقتحام حياة الآخرين في الشارع أو الأماكن العامة أو في وسائل النقل العام ينبهون المرأة علي أن تبرجها سيدخلها النار، وأن الرجال الذين يقصرون اللحي أو يحلقونها هم مخالفون لسنة النبي صلي الله عليه وسلم وهديه. حدث أني كنت حُجزت في مستشفى لإجراء عملية جراحية وجاءت صديقة لابنتي ترتدي البنطلون وهي محجبة لتكون قريبة منا، وحضر أحد كبار قادة التيار الإسلامي الجهادي ليكون هو الآخر معي، وإذا به يترك كل شيء ويوجه حديثه للبنت مؤنبا ومتدخلا في طريقة لبسها وأنها يجب أن تعدلها، وكنت أرقبه وابنتي والبنت ونحن مذهولين صامتين.

آخرون يذهبون في تدينهم مذهب الاستعلاء وتنصيب أنفسهم قضاة على الناس والديار التي يقيمون بها، وعلى المؤسسات المجتمعية والدولتية، وعلى الحكام، فيتساءلون: هل الناس الذين نراهم مسلمين؟ ولا أعرف أي شيطان يلقي بنفس شيطاني ذلك السؤال في عقل ونفس إنسان سوي، ويبدأ وسواس التكفير يعمل في عقله ونفسه فيحكم على الناس بالتكفير ويخوض مواجهات خاسرة مع أسرته أولا ومع مجتمعه ثانيا، فيعتزل المساجد ويقول لا نصلي فيها فأئمتها ممثلين للسلاطين وموالين للطغاة والظالمين.

نحن هنا نتحدث عن التدين اللطيف والقدوة الحسنة “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة” أي قدوة وهاديا ونورا فكن على طريقته، ودعك من وسواس الشيطان. واللطف هو الاقتراب الحسن من الناس والعيش في وسطهم وبينهم وعلى طريقتهم التي تأخذ بعين الاعتبار تلمس الأعذار لهم والرفق بهم والدعاء لهم والإحسان إليهم بلا تكبر عليهم أو الغرور والتعالي فوقهم واعتبارهم أدني منزلة، ومن ثم توعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور. وإذا كان اسم الله اللطيف يعني الإحاطة الرقيقة والحضور المتجاوز القريب الذي يحفظ الإنسان حين الحاجة إلى عونه ولطفه سبحانه “له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم”، وهو بالطبع يعني الرفق. وفي معني اللطف قيل الرفق في الفعل والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى الخلق، وقيل أيضا في معني اللطف الهدية والبر والتكرمة والتودد والاحتفاء بمن تتلطف إليه.

التدين اللطيف إذن هو الذي يجمع بين الرفق والبر وتحقيق مصالح الخلق والخبرة بطرق تحقيقها الظاهرة والخفية معا، والحضور والاقتراب حيث يرجوك الناس ويظنون حضورك دون جلبة أو ضوضاء أو صخب واستظهار واستعلاء وتصدر للمشاهد والمنصات والمحافل، وفي السنة “إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي”. والخفاء هنا هو البعد عن التصدر والاقتحام لحياة الناس، وتوقح الدخول في موبقات السؤال عن إسلام الناس والمجتمع والحكومة والدولة والقوانين وغيرها.

التدين اللطيف هو أن تكون حيث يرجوك الناس حاضرا لتحقيق مصالحهم وما يتوقعونه منك، بلا منزع لانتظار مقابل أو رد لما تراه جميلا قدمته إليهم، والتدين اللطيف هو الذي تكون فيه خادما للخلق قائما على منافعهم دون منازعة على سلطة أو دنيا أو رياسة. وحين دخل الإسلاميون إلى عواصف السياسة وعوالمها بعد ثورة 25 يناير 2011 فقد دخلوها دخولا مفزعا مخيفا مستعليا بلا خبرة ولا معرفة بواقع الناس وبما يحقق مصالح الخلق، والأهم التعرف على المناهج والطرائق والاقترابات التي تحقق تلك المصلحة بدون تخويف للناس، ولو كانوا التزموا التدين اللطيف لكان خيرا لهم وأزكى، لكنهم دخلوا معتمدين “التدين الخشن” الذي بدد ثقة الناس فيهم وأعاد حساباتهم تجاه القوم الذين يترفقون بالناس ولا ينازعون علي الدنيا.

التدين اللطيف هو سبيل الحق للوصول إلي الخلق، وهو الواسطة الجميلة بين الحق والخلق، وهو إعلاء لمنزع الدين الحق المتجاوز لمنازع التدين وأهواء المتدينين، وهو سبيل الآخرة، وأنها خير وأبقى من الدنيا ومنافعها ومباهجها وملذاتها وأموالها ومناصبها. كن من أبناء التدين اللطيف ولا تكن متبعا مناهج سبيل التدين الخشن، فالواقع يقول إن سبيل المتدينين بلطف أبقى وأحسن وأجمل من سبيل المتدينين الخشنين و”ماكان الرفق في شيء إلا زانه وما كان العنف في شيء إلا شانه”.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock