رؤى

التشاؤميون.. كلاب أهل الفلسفة

في طريقه إلى الشرق مر الإسكندر الأكبر بأثينا، ورغب في لقاء فيلسوفها الشهير ديوجين، فذهب إليه، ودار بينهما حوار أثار ديوجين عبره إعجاب وحماسة الملك المقدوني، فطلب من الفيلسوف الكلبي أن يسأله أي خدمة يمكن أن يؤديها إليه، فما كان من ديوجين إلا أن رجاه متهكما أن يبتعد قليلا كي لا يحجب عنه الشمس.

كان تلميذا لأنتيستنيس مؤسس المذهب التشاؤمي أو الكلبي كما عرف بعدها، وأنتيستنيس كان بدوره تلميذا لسقراط، لذا ورث ديويجين تلك النزعة التهكمية المشاغبة التي تسعى دوما لفضح ما ينطوي عليه الوقار من ادعاء، والجدية من خداع، وروي أنه سمع أفلاطون يحاضر طلبته بأن الإنسان حيوان لا ريش له، يسير على قدمين، فأحضر ديكا منتوف الريش وذهب إلى أفلاطون بين طلبته وألقاه إليه، قائلا: ها هو ذا إنسان أفلاطون.

ديوجين الذي عاش معظم حياته في برميل خشبي يرتدي الأثمال البالية ويمشي حافيا بين الناس احتقر البهرجة الفكرية الأفلاطونية وسخر من تصورات أفلاطون للآلهة والإنسان والمدينة الفاضلة، وانتقد تقربه من الحكام، وروي أن أفلاطون مر به يوما وهو يغسل الخس ليكسب قوت يومه، فقال له أفلاطون: لو توددت للحاكم لما اضطررت لهذا العمل، فرد عليه ديوجين: لو غسلت أنت الخس لما اضطررت لتملق الحاكم.

تسببت ممارسات الفيلسوف التشاؤمي في صدمة للمجتمع الأثيني، فكان يتبول في الشوارع ويستمني في العلن ويبصق داخل منازل الأثرياء كلما دعاه أحدهم لزيارته، ورأى ديوجين في ممارساته تمثلا بالحياة الكلبية، فالكلاب في اعتقاده رمزت دوما للثورة على كل مظاهر التكلف، أما تسمية المذهب، فالبعض يرجعها إلى المكان الذي كان يلقي فيه مؤسس المذهب أنتيستنيس محاضراته وعرف بملعب الكلب، والبعض نسبها لمقولة أتباع المذهب: إننا حراس الفضيلة ننبح على الرذيلة مثل الكلب عند الخطر.

أنتيستنيس (365 ـ 445 ق.م)

اتفق أنتيستنيس مؤسس المذهب الكلبي مع أستاذه سقراط في أن الفضيلة لا المتعة هي الغاية، وإن كان سقراط رأى سبيلها في المعرفة التي تؤدي إلى السعادة، وأنها مقيدة بقوانين الدولة وحب العائلة والوطن، فإن أنتيستنيس التمسها في معاداة المتعة، على اعتبار أنها شر خالص، وأن المتع الحسية هي البوابة إلى الشر، ما دفعه إلى ازدرائها، ليعلي في المقابل من قدر المتع الروحية، واعتقد أنتيستنيس أن السعادة الدائمة غير ممكنة؛ لأن الإنسان تتجدد لديه دوما رغبات لا يستطيع إشباعها.

 من هنا، رفض الكلبيون أي تقييد للفضيلة سواء بقوانين الدولة أو بالانتماء للمجتمع والأسرة، لأن هذه الأشياء يتولد عنها رغبات لا سبيل لإشباعها، وهو ما استتبع رفض أصحاب هذا المذهب كافة التقاليد والأعراف التي يفرضها المجتمع والدين والدولة، لتقوم فلسفتهم على مجاراة الطبيعة والنفور من الحياة المدنية وما تستلزمه من قيود، أي وفق حياة “الأريت”، و”الأريت” مفهوم يوناني يعني تحرر الفرد من الرغبة في الثروة والشهرة والسلطة، لهذا لم يكن الكلبيون يلبون من رغباتهم إلا الضروري منها.

وينسب للكلبيين أنهم أول من أسس مفهوم المواطن العالمي، فعندما سُأل ديوجين: من أين أنت؟ قال: أنا مواطن من هذا العالم، في عصر كانت المجتمعات فيها منغلقة على هوياتها.

 هذه الرؤية لم تسبغ الفلسفة الكلبية (رغم رفضها لقوانين الدولة وتقاليد المجتمع) بالانسحابية كما هو حال فلسفات زهدية أخرى، فالفيلسوف الكلبي شاخص أمام المجتمع يتهكم على تقاليده وأعرافه، ويفضح هشاشة معتقداته، مستغنيا عن كل ما يمكن أن يثنيه عن واجبه ذاك، متلمسا سبيل طرقه ديوجين بعبارته: أولئك الذين اعتادوا على الحياة الناعمة، سيشعرون بالتذمر عندما يجربون القليل من خشونتها.. أما أولئك الذين اعتادوا على حياة خالية من المتع، سيجدون متعة أكبر في ازدراء مباهجها.

Mohamed.altanawy1@gmail.com

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock