رؤى

الموت كغاية للفعل السياسي

الجهاديون الجدد، أولئك الشباب المهاجرون من جنان الغرب إلى عالم الخلافة الداعشي، ظاهرة تستحق النظر ومحاولة الفهم. هل الأسباب الاقتصادية الاجتماعية كافية لفهم الظاهرة المرتبكة والمعقدة؟.. نعم، هي تجيب عن بعض الجوانب في الظاهرة، في شعور هذا الجيل الذي  ولد في الغرب ويحمل جنسيته أنه ينتمي لذلك العالم لكنه لا يحصل على حقوقه الاقتصادية والاجتماعية المتساوية مع المواطن الأصيل الذي ينتمي أبواه لذلك العالم، وليسوا نتاج الهجرة بحثا عن الرزق وحياة أفضل.

بيد أن هناك مسلمين جدد يدخلون إلى “داعش” وهم لا يعانون الأسباب الاقتصادية الاجتماعية التي يعاني منها الجيل الثاني والثالث لمن كان آباؤهم مهاجرين إلى بلدان العالم الغربي، ما يعني أن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية لا تفسر وحدها ظاهرة الانضمام الغربية الواسعة لداعش. نشير هنا مثلا إلى خالد مسعود، 53 عاما، الذي نفذ الهجوم على البرلمان البريطاني في مارس 2017، وهو هنا يمثل استثناء في الحقيقة لسن المنضمين لداعش فهم عادة مراهقون، ولي أن أجتهد هنا فأقول إن عُمْر “خالد مسعود” هو العمر الذي أصبح فيه مسلما بالإضافة لعمره حتى أصبح راشدا، ومن هنا سأدخله افتراضيا في فئة المراهقين الذين يلتحقون بداعش أي أنه لا ينفي القاعدة ولكنه استثناء يثبتها.

كما يمكن أن نضيف بقدر من الحذر هنا أيضا “ستيفن بادوك” الذي يبلغ من العمر 64 عاما، والذي نفذ من غرفته بالفندق بالطابق الثاني والثلاثين أكبر عملية قتل جماعي في أمريكا، بلغ عدد ضحاياها 60 قتيلا و500 مصاب، عندما استهدف حفلا موسيقيا ضخما كان مزدحما بالمشاركين من الشباب والشابات وقيل إنه للمثليين، ما يعيد إلى الذاكرة استهداف “عمر صديق متين” المواطن الأمريكي من أصل أفغاني البالغ من العمر 29 عاما ملهى ليليا للشواذ كان يتجمع فيه حوالي 300 شخص، أطلق النار عليهم لمدة ثلاث ساعات مخلفا وراءه 50 قتيلا، وتدخلت الشرطة وقتلته.

هناك أسباب متعلقة بالجذور الثقافية والشعور بالتهميش والتمييز وفقدان المكانة الاجتماعية والنظر إلى أبناء المهاجرين المسلمين للغرب من كافة الأصول عربية وآسيوية وإفريقية على أنهم مهاجرين وليسوا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، ومن ثم يأتي البحث عن المكانة ومحاولة رد الاعتبار للذات والنفس والشعور بالفخر والتحقق والتمكن.

هناك أسباب أخرى متعلقة بالإرث الاستعماري الغربي تجاه البلدان التي جاء منها الآباء الأوائل كما هو الحال بالنسبة للمهاجرين الحركيين الجزائريين الذين اعتبروا أنفسهم مواطنين ينتمون للبلدان المستعمرة، بيد أن أولادهم والأجيال التي تلتهم لم ينسوا ذلك الإرث الاستعماري، وهم يعملون على رد الصاع بمثليه إلى تلك الدول التي لها تاريخ استعماري مقيت كما هو الحال بالنسبة لفرنسا في علاقتها بالجزائر والمغرب العربي.

هناك أسباب سيكولوجية  ونفسية متعلقة بطبيعة الشباب الذي ينضم إلى داعش من الدول الغربية وكلهم تقريبا في مرحلة المراهقة والشباب وتتراوح أعمارهم بين 18 – 25 سنة، وهذه المرحلة لها حساسية خاصة تدفع الكثير من الشباب إلى المغامرة وكشف عوالم جديدة والبحث عن هوية مختلفة عن تلك التي ورثوها عن آبائهم ومجتمعاتهم، بيد أن الحالات الكبيرة في السن خاصة تلك التي تحولت إلى الإسلام عانت من مشاكل اجتماعية وعائلية عميقة، وعرف عن أغلبهم تبني العنف.

كل هذه الأسباب معتبرة، ومأخوذة في الحسبان، وقد تُجلي غموض بعض جوانب الظاهرة، لكنها لا تفسر بشكل كاف الذهاب المستلب إلى عالم مجهول ذي جاذبية أقرب للسحر والخيال، تلعب فيه الدعاية الداعشية دورا كبيرا في رسم الصورة السحرية المتلاعبة بتلافيف النفس والعقل والوجدان لأغلب أولئك المراهقين الرجال، ولا نستثني من ذلك النساء. أولئك جميعا تجذبهم تلك الدعاية ليصبحوا استلابا سحريا لعوالم خيالية تعود بهم إلى عالم الخلافة المفقودة، عالم الخلافة الذهبي الذي يعيد بني آدم مرة أخرى إلى الجنة التي سلبهم إياها أباهم الأول بإنصاته للشيطان وأكله من الشجرة.

تحمل داعش في جوانبها الكبرى ما أطلق عليه “طابعا مهدويا” وهذا يعني عالم النهايات الذي يضع العالم والحضارة والإنسان على حافة الهاوية انتظارا للحظة القيامة والنهاية حيث يختفي ذلك العالم المليء بالظلم والقهر وغلبة الأقوياء وعلو المادة وسيادة روح السوق والحضارة الرأسمالية بكل ماديتها وتزيينها وتشييئها للمنتجات المادية على حساب الإنسان وعلى حساب الروح لصالح المال والسوق ومن يملكون المال في مواجهة من لا يجدونه.

لا تخلو أدبيات داعش من تضمين لما يطلق عليه في كتب الحديث والسيرة “أحاديث آخر الزمان”، التي تركز على نهايات العالم وكيف يندلع صراع كبير بين جيوش الكفر وجيوش الإسلام، وستكون هذه المقاتل الكبرى في قرية “دابق” التي شهدت المعركة بين جيش المماليك بقيادة قنصوة الغوري آخر حكام مصر المماليك، وجيش “سليم الأول العثماني” المعروف بياوزلدي الترك، وتعني القاطع، وهزم فيها الغوري مقتولا منهيا بذلك حقبة المماليك ومدشنا لمرحلة حكم العثمانيين لمصر عام 1516. من هنا أطلق التنظيم على مجلته “دابق” للأهمية الرمزية في عالم النهايات ذات الطابع المهدوي، فالأحاديث تقول “لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق”. وقد اتخذ داعش “الأعماق” عنوانا لوكالة الأنباء الرئيسية له، والأعماق موقع آخر قرب حلب كما يذهب النووي، وهي ضمن الحدود التركية ألآن في منطقة أنطاكية، ويؤلون أحاديث آخر الزمان عن توحد التحالف الذي تقوده أمريكا في مواجهة داعش، ويقولون هناك تقع الملاحم قرب غوطة دمشق، حيث يجتمع الروم في ثمانين غاية، في كل غاية اثنا عشر ألفا، ولذا لما قيل إن التحالف ثمانين دولة فرح أهل داعش واعتبروا ذلك علامة على صحة تأويلهم، وكما هو معلوم فإن المهدوية الداعشية اعتبرت الشام هي مجال تحقق الملحمة الكبرى والمواجهة العاتية مع الغرب بمعناه الواسع بما في ذلك روسيا وأوروبا وأمريكا، كما اعتبرت أن الشام هي المجال لتحقق نصر المسلمين على الغرب وظهور عيسى بن مريم وقتله الدجال، حيث يقتل آخر عنوان للشر في العالم.

تقود الملاحم إلى ما أطلق عليه هنا عنوان “الموت المتجاوز”، أي الموت في خضم الملحمة، فيا سعد من حضر الملحمة وعاش لحظة التجلي الكبري لها ومات في تلك اللحظة الملحمية. هذا ما يفسر استخدام داعش الواسع للانتحاريين في مواجهة الخصوم حيث يمكنه تدمير خطوط المواجهة للقتال وجعلها مفتوحة، فوقائع التاريخ تقرر أنه لم يتم استخدام الإنسان كأداة للموت والانتحار في أي حركات اجتماعية سابقة  على داعش، فالمعلوم لدى الإسلاميين السابقين لأجيال داعش أنهم لم يتعمدوا أبدا مواجهة الموت، باعتبار أن ذلك انتحارا، وأنهم كانوا يتحاشون مواجهة الموت أو جعل أنفسهم أداة للموت، أما داعش فإنه يؤسس لاستخدام الإنسان كأداة للموت في صراع بين طرفين، أيا كان، فإن فيه جزء دنيوي حتى لو كان تحقيق الخلافة ذاتها لجماعة تسعى لتحقيقها، هنا الدنيا تصبح سببا لموت الإنسان الذي كرمه الله تعالى وجعل حمايته والحفاظ علي نفسه غاية دينية.

فيديو لإرهابيين يقومان بوداع بعضهما قبل تنفيذ إحدى العمليات

من هنا يكون البعد الديني متراجعا في القصة، بينما يقفز البعد الخيالي المهدوي الذي ينظر للموت باعتباره غاية وهدفا في ذاته تحديا للتحضر والحياة الإنسانية والعصر بحثا عن تدمير هذا الشكل الحضاري عودة لحالة البدائية الأولي التي يكون الإنسان فيها والقوة العضلية والجسدية هي الأداة الرئيسية للمواجهة. هل الشعور بتحقيق الإنسان الكامل عبر موت متجاوز في ملحمة كبرى من أجل خروج سريع نحو جنة واسعة، يكون تفسيرا ملائما وممكنا لاعتبار الموت غاية في حد ذاته لدى أجيال الموت الداعشي.

لا تبدو داعش حاملة لأيديولوجيا خاصة بها، وإنما هي ورثت أيديولوجيا القاعدة واختارت من بينها “إدارة التوحش” ليكون عنوانا لعملها وطريقة مواجهتها للنظم السياسية والدول القائمة، وهنا تهدف لتحقيق الفوضى حيث يكون ذلك مجالا مناسبا لأعمالها الوحشية. أي إننا أمام حركة متوحشة تعود بالإنسان إلى حالة البداوة الأولى ما قبل العقد الاجتماعي تمهيدا لتحقيق الاقتراب من نهاية العالم، وهي بذلك حركة عدمية فوضوية تثير الرعب والفزع وتهدد الحياة والإنسان والعصر.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock