ثقافة

الإلياذة .. أيقونة الهوية اليونانية على مر العصور

في بداية الإلياذة – قصيدة هوميروس الملحمية عن حرب طروادة – يتطرق الشاعر إلى استطراد شهير يتضمن أسماء جميع القادة اليونانيين الذين جاءوا للقتال في طروادة. وقبل الكشف عن تفاصيل هذه القائمة، يتضرع هوميروس إلى ربات الشعر أن تلهمه الحقيقة.

يعكس هذا التضرع إدعاء مركزيا في الشعر الملحمي، وهو أن إلهامات ربات الشعر التي تلقي بها في روع الشعراء تحفظ معارف الشعوب وأحداث التاريخ، وهو ما يمثل قوة هائلة كامنة في الثقافات الشفهية التي تطورت الإلياذة في ظلها. كُتبت الإلياذة في الفترة بين عامي 750 إلى 700 قبل الميلاد، لكن أصولها تمتد إلى خمسة قرون خلت، في أعماق العصر الميسيني البرونزي، وهو العالم الذي تبعث فيه الإلياذة الحياة.

عرف الميسينيون أيضا الكتابة، لكن استخدامهم لها لم يتجاوز الأعمال البيروقراطية في دواوين القصور. ومع انهيار ممالكهم في حوالي عام 1200 قبل الميلاد، ذهبت هذه الدواوين، وما حوت، أدراج الرياح. ولم يحفظ ذاكرة العالم الميسيني، وينقلها إلى العصور الجديدة سوى الشعراء الذين تناقلوا الإلياذة  شفهيا، سواء بنصها أو بإدخال تعديلات عليها.

تعرف الإليادة دورها جيدا كسجل للذاكرة، وتمثل المصداقية مكونا مركزيا في روايتها لأحداث الأسابيع الأخيرة من السنة العاشرة (والأخيرة) في حرب طروادة بين اليونانيين والطرواديين من أجل هيلين الجميلة، الملكة اليونانية التي تركت زوجها من أجل أمير طروادي. لا تقتصر شخصيات الملحمة على المقاتلين وأسرهم وأسراهم فحسب، وإنما تمتد لتشمل الآلهة الأولمبية الخالدة التي تضطلع بإنجاز مهام خارقة للطبيعة ومتجاوزة للقدرات البشرية في سياق مشاركتها في الأحداث.

وبرغم هذه الأعمال الإلهية المتجاوزة، تبذل الملحمة جهودا مضنية للمحافظة على واقعيتها، فتحرص الصور البلاغية التي يستخدمها هوميروس طوال الوقت على استدعاء العالم الطبيعي المادي المألوف سواء داخل طروادة أو في المناطق المحيطة بها، كما يتسم التوصيف الدقيق للأساليب القتالية التي تنطوي عليها المعركة بالمصداقية الشديدة، ووصف الجروح  بالدقة التشريحية، وتبعث واقعيته الملتزمة الحياة من جديد في معالم طروادة التي غيبتها السنون.

وفوق ذلك، فإن واقعية رسم الشخوص تجعلها نابضة بالحياة وماثلة أمام أعيننا، كأنما تخرج من صفحات التاريخ ومن بين سطور القصيد لتكر وتفر في ساحة معركة مضطرمة حقيقية. وتضيف كلمات هذه الشخصيات وخطاباتها التي تشكل أكثر من نصف أبيات الإلياذة (15693 بيتا) إلى هذا البعد الحياتي الواقعي في الملحمة.

قد تبدو الإلياذة من الوهلة الأولى ملحمة ذكورية خالصة، تستمد قوتها من قوة شخوصها الجسدية، وأنها لا تمنح اهتماما كبيرا لشخوصها النسائية، إلا أن الاستقراء المتفحص لشخصية هيلين – البطلة التي تتفاعل بداخلها صراعات نفسية عميقة – يجعلها لا تقل قوة وواقعية عن شخصية آنا كارينينا في رائعة تولستوي التي حملت الاسم نفسه.

كتب هوميروس هذه الملحمة في حوالي عام 750 قبل الميلاد، وهو الوقت الذي انجلى فيه غبار العصور المظلمة عن آفاق العقل اليوناني. وانتشرت هذه الملحمة انتشارا واسعا، وساد اعتقاد راسخ بأن شخوصها، الناسوتية والإلهية، التي ألهمت الفنانين عبر العصور، يجسدون أشخاصيا حقيقيين، وهو ما أثبته المؤرخ اليوناني ثيوسيديدز، الذي اشتهر بتأريخ المعارك الحربية في القرن الخامس قبل الميلاد، عندما كتب أن هذه الحرب طويلة الأمد أدت إلى زعزعة استقرار اليونان في نهاية العصر المظلم.

وبرغم أن الإلياذة تمثل – مع الأدوديسا – أهم ملحمة شعرية أغريقية، إلا أن أبعادها الفلسفية والاجتماعية تتجاوز حدود الرواية التاريخية، فقد وضعت الإلياذة مفهوما جديدا للعبادة وواقعها الطقوسي. وبحسب المؤرخ اليوناني، هيرودوت، فإن هوميروس وهسيود (شاعر يوناني كتب في القرن السابع الميلادي) هما من قاما بتحديد أوصاف مادية للآلهة الميتافيزيقية التي عبدها اليونانيون، وألبساها مسوحا بشرية، نتجت عنها الآلهة الأولمبية التي نعرفها اليوم.

في الوقت نفسه، فقد أنشأ اليونانيون تنظيمات وطوائف دينية حول الأبطال البشريين في الإلياذة، باعتبارهم “رموزا سلفية”، وغدا التشبث بالجذور الإلياذية، والانتماء إلى التاريخ الذي روته ركنا ركينا وجزءا لا يتجزأ من الهوية اليونانية. وهكذا فإن دور الإلياذة لم يقف فقط عند حدود توجيه مسار الفن، لكنه تجاوز ذلك إلى إعادة كتابة التاريخ الاجتماعي.

وإذا كانت الطرائق – التي وظفتها الإلياذة لإجبار جمهورها، حتى عصرنا هذا، على مواجهة حقائق جوهرية تتعلق بخبرات إنسانية، مثل الموت الجماعي والتمسك بالفضيلة، وغيرهما من المناطق الوعرة والمظلمة التي تتصل اتصالا مباشرا بقضايا الدين والهوية – أقل قابلية للقياس الكمي؛ إلا أنها تبقى أكثر عمقا وأنفذ أثرا.

تتكشف الإلياذة عن معنى آخر لا يقل أهمية وعمقا، وهو يتناثر عبر أجزاء الملحمة، إلا إنه يتركز بقوة قرب نهايتها في المشهد الرئيس الذي ينتحب فيه كل من الملك اليوناني المنتصر، آخيل، على ذكرى أبيه وموت رفيقه، والملك الطروادي المنهزم، بريام، على موت ابنه، وتضرعه من أجل الحصول على جثمانه. يخلص هوميروس إلى أن الانتصار في المعارك لا ينفصم عن الخسائر، وأن المنتصر والمنهزم يتشاركان خبرات إنسانية مريرة بالقدر ذاته، وأنه لا يوجد ما يسمى بالنصر الخالص غير المشوب بالتضحيات والفواجع.

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock