منوعات

«الاحتيال البرئ» .. سطوة رأس المال المخادع

كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن تزايد نفوذ الشركات العالمية الكبرى، خاصة الأمريكية في التلاعب بالأسواق والمستهلكين والهيمنة على الاقتصاد والسياسة، وزاد من سطوة هذه الشركات نفوذها الواسع في صناعة الإعلام وووسائل الترويج ذات التأثير الطاغي على الجمهور، بما يتوافر لها من قدرات تمويلية وفنية هائلة. عزز المخاوف من خطورة هذه الظاهرة مؤخرا أن تأثير هذه الشركات لم يقتصر على الجمهور العادي، أو جمهور مستهلكي السلع والخدمات كما هو شائع، بل تخطاه إلى التأثير السياسي  في الانتخابات والهيمنة على أنظمة الحكم في العديد من البلدان.

وتمثل الانتخابات الأمريكية حالة مثالية لذلك، فالتصويت أو الاقتراع في الانتخابات عادة ما يكون مسبوقاً بحملات هائلة وإنفاق خيالي مدعوم غالبا من شركات كبرى، للتأثير على الناخبين سواء من خلال وسائل الإعلام أو من الحملات الانتخابية التقليدية وغيرها من الوسائل ذات التأثير في اختيارات الناخب. وبات لزاما على أي سياسي يطمح في المنافسة على أي موقع في الإدارة الأمريكية أن يتلمس السبيل مسبقا لمن يدعمه من هذه الشركات في تغطية الكلفة المالية الباهظة لمثل هذه الخطوة، فيما تسعى الشركات من جانبها لمساندة من تراهن على تطويعه لخدمة مصالحها.

 

الدور المشبوه للشركات العالمية الكبرى في الاقتصاد والسياسة، سبق أن نبه إليه الاقتصادي الأمريكي المرموق جون جالبريث رئيس جمعية العلوم الاقتصادية الأمريكية في كتابه الأخير Economics of Innocent Fraud   وترجمته الحرفية: اقتصاد الاحتيال البرئ (غير المدان جنائيا)، والذي استعرض فيه ما يسود الاقتصاد العالمي من ممارسات تبدو قانونية أو لا تخضع لطائلة القانون، فيما تنطوي على قدر هائل من الاحتيال.

اعتبر جالبريث أن أحد أخطر صور الاحتيال تعبير “نظام السوق” وهو تعبير يبدو محايداً ولا يحمل السلبيات التي أحاطت تاريخياً بمصطلح “الرأسمالية” الذي ارتبط بالعديد من السلبيات نتيجة طغيان الملكية الخاصة وتتابع الدورات الاقتصادية بالانتقال من الرواج إلى الكساد. يوحي هذا المصطلح الجديد الذي ابتدعه المنظرون الجدد للرأسمالية بأن علاقات السوق هي مجرد علاقة بين أفراد لا تحمل في طياتها مفاهيم السيطرة والقوة والاحتكار، فيما يرى  جالبريث في تلك التسمية الجديدة أسلوباً عبقرياً في “الاحتيال” على الجمهور.

ويلفت جالبريث إلى أنه في النظرية الاقتصادية الكلاسيكية كان السوق مرادفاً لسيادة المستهلك، في تقرير ما يتعين انتاجه وشراؤه وبيعه، فهناك يد خفيةInvisible hand ، وهي استعارة ابتكرها أبو علم الاقتصاد آدم سميث في كتابه ” ثروة الأمم”، لوصف تعاملات السوق، ويعني بذلك أنه لو سُمح لكل مستهلك بحرية اختيار السلعة التي يرغب في شرائها، وسٌمح لكل مُنتِج أن يبيع ما يشاء، وأن يُصّنِع السلعة التي يشاء، فسيختار المنتج حتما السلع التي يقبل المستهلك على شرائها، ومن ثم تتحقق مصلحة كل منهما، ما يعني أن اختيار المستهلك هو الذي يحدد مسار السوق.

لكن في واقع الأمر، فإن المشروع المنتج والصناعة تذهبان بعيداً في تحديد الأسعار وخلق الطلب باستخدام أدوات الاحتكار وتصميم المنتج وتنوعه والدعاية وغيرها من محفزات الشراء، ما يجعل مصطلح سيادة المستهلك أحد أبرز أشكال الاحتيال الشائعة.

وهناك احتيال آخر، فكما لم تعد هناك سلطة للمستهلك في السوق، كذلك لم تعد ثمة سلطة للمستثمر أو المالك حامل السهم، فلم تعد السلطة الفعلية لمجلس الإدارة أو الجمعية العمومية، بل للمديرين التنفيذيين القائمين على إدارة المشروع، مع دور شكلي للملاك وحملة الأسهم، ما يعني انتقال السلطة الاقتصادية فعليا من الملكية إلى الإدارة في المشروعات ذات الحجم الضخم التي نأخذ غالبا شكل مؤسسة بيروقراطية عملاقة Corporation، والتي باتت بمثابة الوحدة المركزية في المنظومة الاقتصادية للبلدان الصناعية الكبرى، وهي تتطلب إدارة فائقة التأهيل تفوق طاقة الفرد مهما بلغت مهارته.

ومن أخطر أمثلة سيطرة “الإدارة” والتداخل بين القطاعين الخاص والعام، ذلك النفوذ الهائل لمديري شركات السلاح على المجمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة، ما استدعى التحذير المعروف للرئيس أيزنهاور إبان فترة حكمه من ما يمثله ذلك النفوذ من خطر. وبدا ذلك جليا في الولايات المتحدة إبان غزو العراق، عندما تم توجيه ما يقرب من نصف الإنفاق الحكومي للعام 2003 لأغراض عسكرية، أغلبه يتعلق بشراء أسلحة أو ابتكار الأسلحة وتطويرها، ما يعكس نفوذ أولئك الذين يرتبطون بالصناعات العسكرية الأمريكية.

وخلال فترة ضعف البورصة في ربيع 2001، نشرت جريدة النيويورك تايمز صفحة كاملة تفضح المفارقة بين الأسعار المنخفضة للأسهم ومكافآت المديرين المرتفعة، التي تتجاوز عدة ملايين من الدولارات للفرد في السنة، بموافقة روتينية من أعضاء مجلس الإدارة الخاضعين لنفوذ المديرين التنفيذين. وكانت شركة إنرون التي جاء إفلاسها مدوياً مثالاً على ذلك، وكذلك شركة جنرال إلكتريك.  كما نشرت مجلة فورشن عن مكافآت ضخمة للإدارة بالرغم من تناقص المبيعات والإيرادات، فيما أطلقت عليه المجلة وصف “السرقة”، وغالبا ما توفر المحاسبة الفاسدة غطاءً آمنا لمثل هذه الانحرافات.

ويفضح جالبريث وسائل التحايل على الجمهور من المؤسسات المالية والسماسرة ومستشاري الاستثمار في أسواق المال، عبر إدعاء القدرة على التنبؤ بمستقبل الأسواق وسلوك الأدوات المالية، فيما يؤكد جالبريث أن الأداء الاقتصادي المستقبلي والانتقال من الفترات المزدهرة إلى الانكماش والكساد والعكس، هي أمور لا يمكن التكهن بها. وقد هبت العاصفة على وول استريت في عام 2008 لتفضح زيف مثل هذه الادعاءات، كما جاءت فضيحة مادوف الشهيرة لتثبت الاحتيال الصريح، وقبلها فضيحة شركة إنرون، عندما أعلن كبار المديرين التنفيذيين وأعضاء مجلس الإدارة أرقاما مبالغا فيها تزيد على أرباح الشركة الحقيقية بحوالي مليار دولار، وقاموا بعمليات مشاركة وهمية لإخفاء خسائر وديون الشركة التي تولت تمويل حملة كلينتون الانتخابية الثانية، وحملة جورج بوش الابن الأولى.

حسني كحلة

باحث في الاقتصاد السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock