ثقافة

«مجتمع الفرجة» .. وروايات «تيك أواي»

راجت في السنوات الأخيرة اتهامات لعدد من مشاهير الروائيين المصريين بالسرقة الأدبية، في مقدمتهم الأديب البارز علاء الأسواني الذي نسبت له جريدة الشرق الأوسط اللندنية، في دراسة نشرتها منذ عدة سنوات للقاص والناقد رؤوف مسعد؛ سرقته فكرة رواية “حفلة التيس” لماريو بارغاس يوسا، وتقديمها لقرائه عبر نصه الأخير “نادي السيارات”.

 الأمر نفسه تكرر مع يوسف زيدان، فكان أن نشر موقع قناة العربية العام الماضي تقريرا بخصوص روايته “عزازيل” يسجل سرقتها من عمل قديم للأديب الإنجليزي “تشارلز كينغسلي” تحت اسم: أعداءكتنا جدد بوجه قديم أو هيباتيا، كذلك روايته “محال” وجزءها الثاني “جوانتانامو” المقتبستان من رواية دورويثيا ديكمان “جوانتانامو”. أما المتهم الثالث فهو الروائي الشاب أحمد مراد، حيث نُسب له سرقة فكرة روايته الأشهر “الفيل الأزرق” من فيلم أمريكي يدعى “جوسيكا”. هذه الأسماء هي مقدمة لطابور طويل ربما لا ينتهي آخره عند فن الرواية.

لبحث الظاهرة لابد بداية الوقوف على قاعدة مفهوم صكه المفكر الفرنسي “جي ديبور” هو “مجتمع الفرجة” أو “الاستعراض”، أي مجتمع الصورة والفضائيات والوسائط الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي. يستبدل هذا المجتمع العالم المحسوس بمجموعة من الصور توجد “فوقه” وتقدم نفسها على أنها هي المحسوس، معنى ذلك أن الفرد في “مجتمع الفرجة” يعيش بحسب صورته لدى الآخرين لا وفق ما يكون عليه، أما الصورة المصدرة عنه فيجري إعدادها أو “إخراجها” بحيث تبدو وكأنها أصيلة لا مجرد تمثيل وفبركة، ليتم نشرها عبر الوسائط الإعلامية أو مواقع التواصل، وهذا بخلاف المجتمع القديم الذي كان يحيا أفراده وجها لوجه، من ثم فصورة الواحد منهم هي تعبير غير مفبرك عن شخصيته وهويته.

 في “مجتمع الفرجة” يجري تسليع كل شيء، بحيث يتحقق مفهوم الفرجة بشكل كامل عندما تُعلن السلعة “احتلالها الكلي للحياة الاجتماعية”، ومثلها مثل كل شيء تصبح الثقافة سلعة، أما المنطق المسيطر في مجتمع الفرجة فليس قطعا منطق الاستدلال أو البرهان، ولا منطق الأيديولوجية، إنما منطق السلعة، الذي يجعل الأشياء حقيقية عبر الإلحاح بأنها كذلك، هذا يعني أن الحاكم الأعلى للمجتمع هو الوهم، لكنه وهم مدعوم بقوة عبر الإعلان والدعاية كصناعة لا تحفل بأي قيمة غير حسابات الربح.

القاعدة الثانية التي علينا أن نستند إليها لتفسير الظاهرة، هي رؤية قدمتها “حنا آرندت” بخصوص حالة “الجمهور” التي تتمثلها بعض الشعوب عبر فترات ما من تاريخها. تشير آرندت إلى أن الناس في حالة “الجمهور”، لا ترغب في الثقافة، بل في “ملء أوقات الفراغ” عبر مواد للتسلية والإلهاء، وأي مواد “تثقيفية” عليها أن تخضع لتلك الهيئة، وبذلك تدخل مع الأكل والنوم والعمل ضمن الدورة البيولوجية لحياة الفرد الذي يلعب دور المتلقي السلبي. كما لا تعدو هذه المواد “التثقيفية” أن تكون مثلها مثل بقية السلع الأخرى “مواد للاستهلاك” تخضع لقوانين السوق، ومن بينها مثلا تلبية الطلب السريع على المنتَج، وهو ما يعمل عليه المنتِج (عبر السرقة على سبيل المثال) بغض النظر عن أي قيمة أخرى، فالمنتِج “الثقافي” لا يفكر في منتجه كعمل للخلود بل لملء “أوقات الفراغ” لدى الجمهور، وهنا تصبح وظيفة الثقافة ليس أكثر من تلبية لحاجة مؤقتة وعابرة.

إذن نحن أمام صورة وهمية يصدرها المنتِج “الثقافي” عن نفسه وعن منتَجه بغرض الترويج له عبر الوسائط الإعلامية المختلفة، ولدينا جمهور لا يرغب سوى فيما يملأ وقت فراغه، وهو فضلة الوقت الذي يستغرقه في عمله وبقية أنشطته الحياتية، من ثم فهو لا يستهلك من المنتوجات الثقافية غير تلك التي لا تسمح له بأن يغادر مقعد المتلقي السلبي، وهي منتجات تكونت على عجل لإشباع حاجة “جمهورها” العابرة للتسلية، ومن الطبيعي تبعا لذلك أن لا يعبأ الجمهور بقيمة المنتج المقدم إليه أو بكونه عملا مسروقا، فما يهمه هو أن يشبع المنتج حاجته العابرة.

الكاتب والمتلقي هنا متفقان على أن المسألة ليست متعلقة بأية قيمة، إنما بـ “مادة للاستهلاك” بغرض التسلية، لهذا لم تتأثر مكانة الكُتاب المشار إليهم بعد توجيه الاتهامات لهم بالسرقة، ولم تتراجع مبيعات رواياتهم، فيما المتلقي مستسلم بالكلية للآلة الدعائية والإعلامية التي توجه ذوقه وتحدد قيمة الأشياء وتقرر مدى نفعها وأهميتها له، وبذلك يكون ـ كما نبه ديبور ـ على “كل فروع المعارف التي تواصل تطورها بوصفها فكر الفرجة، أن تبرر مجتمعا لا مبرر له، وأن تشكل علما عاما للوعي الزائف”.

Mohamed.altanawy1@gmal.com

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock