منوعات

بن برادلي على خطى الشيخ علي يوسف

فى عام 1971 أصدر المدعى العام الأمريكى قرارا بوقف نشر وثائق البنتاجون المسربة عن حرب فيتنام فى جريدة “نيويورك تايمز” بناء على طلب من .الرئيس ريتشارد نيكسون

بعدها بأيام تحايلت جريدة “واشنطن بوست” على القرار ونشرت الوثائق التى تثبت خداع أربعة رؤساء أمريكيين، ترومان، وايزنهاور، وكينيدى، ونيكسون، للشعب الأمريكى، وتفضح حقيقة أن رؤساء أمريكا أرسلوا جنودهم إلى هناك رغم معرفتهم أن هزيمتهم ليست سوى مسألة وقت.

قرار وقف النشر عرض على المحكمة العليا الأمريكية، فصوت أعضاؤها لصالح نشر الوثائق، “فحرية الصحافة جزء أصيل من الدستور والنظام الذى وضعه الآباء المؤسسون.. والصحافة تعمل عند المحكومين وليس عند الحكام”، وفقا لما جاء فى نص القرار الذى أعيدت تلاوته فى فيلم “ذا بوست” الذى طرح القضية فى عمل فنى رائع للتذكير بأهمية الصحافة ودورها فى ترسيخ مبادئ الشفافية فى الولايات المتحدة وحماية الأمة ومصالحها من أخطاء وخطايا السلطة.

لم تكن “واشنطن بوست” الجريدة الوحيدة التي اختار رئيس تحريرها الأسطوري “بن برادلي” أن يمد يده في “شق الثعابين” ويعرض نفسه ومالكة الجريدة “كاثرين جرهام” للسجن بسبب “غريزة الصحفي”، بعد أن وجه لهم نيكسون اتهامات بتسريب وثائق عسكرية تعرض الأمن القومي للخطر.

الصحافة المصرية كانت سباقة، وخاضت معاركها قبل ذلك التاريخ بعقود، وكما انحاز “برادلي” لـ”غريزة الصحفي” ونشر وثائق يعلم إنها قد تنتهي بسجنه، استجاب الشيخ علي يوسف، رئيس تحرير ومالك جريدة المؤيد، مبكرا لنفس الغريزة ونشر وثائق تعرض جيش الاحتلال البريطاني للخطر. ففي عام 1896 وجهت سلطات الاحتلال الإنجليزي تهمة تسريب ونشر أخبار من شانها تعريض جيش المملكة المتحدة للخطر إلى رئيس تحرير “المؤيد”، وتم إحالة الرجل للتحقيق.

كان رائد الصحافة المصرية الذي أسس “المؤيد” عام 1889 بدعم مالي من صديقيه الشيخ أحمد ماضي والزعيم سعد زغلول، قد شن حملة على الاحتلال، وانتقد إرسال الجيش المصري إلى حملة غير محسوبة في السودان بقيادة السردار كتشنر ونشرت الجريدة سلسلة تقارير وتحقيقات أثارت اللورد كرومر المعتمد البريطاني في القاهرة. صدر أمر من نظارة الحربية بمنع وصول أنباء الحملة العسكرية في السودان إلى “المؤيد” طبقا لتعليمات كرومر، مع ذلك لم تتوقف الجريدة، ونشرت ما يلقاه الجنود المصريين وضباطهم الإنجليز من هزائم على يد “دراويش المهدية” السودانيين.

ربطت “المؤيد” بين ما يحدث في جبهة أدغال أفريقيا من هزائم للجيش وما يحدث في الجبهة الداخلية من سقطات سياسية، واستطاع الشيخ علي يوسف تجنيد مصادر سرية موثوقة يحصل منها على أخبار الحملة. وفي 22 يوليو من عام 1896 أرسل السردار كتشنر برقية إلى ناظر الحربية مكونة من 566 كلمة يخبره فيها بتفشي وباء الكوليرا بين رجال الحملة، وأن الوباء وصل شمالا حتى جنوب مصر. في اليوم التالي نشرت “المؤيد” نص البرقية في صدر صفحتها الأولى، تحت عنوان “أحوال الجيش المصري على الحدود”، ما أثار ذعرا بين عائلات الجنود المصريين وفي صفوف الضباط الإنجليز الذين كانوا يخدمون في مصر.

أحرج الخبر اللورد كرومر، فأمر ناظر الحربية بالتحقيق، واتجهت أصابع الاتهام إلى توفيق أفندي كيرلس موظف التلغراف بمكتب الأزبكية، وألقي القبض عليه وهو ينسخ إحدى البرقيات ووجهت إليه تهمة إفشاء أسرار الحاكم الإنجليزي، وتولى التحقيق وكيل النيابة محمد بك فريد، آنذاك.

استدعى الشيخ علي يوسف للتحقيق، ورفض الكشف عن مصادره، فأوصى وكيل النيابة بحفظ التحقيق مع رئيس تحرير المؤيد لعدم وجود أدلة كافية على إدانته، إلا أن النائب العام الإنجليزي أمر بتقديمه إلى المحاكمة. وأحيل كيرلس أفندي إلى المحاكمة بتهمة إفشاء أسرار الجيش وإثارة ذعر أهالي الجنود، وتم اتهام الشيخ علي يوسف بنشر أخبار عسكرية، وبدأت محكمة جنح عابدين، في نظر القضية.

أمام المحكمة فجر الأستاذ إبراهيم الهلباوي المحامي مفاجأة وهي أن الشاهد الوحيد على موظف التلغراف، هو محرر جريدة المقطم الموالية للاحتلال اسكندر تادرس والذي هاجم جريدة المؤيد في سلسلة مقالات تحت عنوان “الزارع للشر عند أبليس”، فصدر الحكم ببراءة الشيخ علي يوسف وحمل على الأعناق إلى خارج المحكمة، وحبس توفيق أفندي كيرلس ثلاثة أشهر.

حضر محمد بك فريد وكيل النيابة الذي حفظ التحقيقات جلسة الاستئناف، وعندما نطق القاضي ببراءة المتهمين، قفز من مقعده وصفق طويلا للقاضي الذي أصدر الحكم وهتف مع الحضور، ما دفع وزارة الحقانية “العدل”، إلى استصدار قرار بنقله إلى بني سويف، فاستقال فريد احتجاجا على القرار وانضم إلى الحركة الوطنية التي تشكلت للمطالبة بالجلاء، وصار محاميا كبيرا وزعيما مصريا زائع الصيت وخلف الزعيم مصطفى كامل في رئاسة الحزب الوطني.

كتب محمد فريد في مذكراته عن تلك الواقعة: “حضر المرافعة عدد كبير من القضاة ووكلاء النيابة والمحامين، ونظرا لاشتراكي في مظاهرة المحكمة، وكنت وكيلا للنائب العام، تم نقلي إلى إحدى المحاكم الكلية في بنى سويف، ولذلك صممت على الاستقالة ورفض النقل، وبذلك تخلصت من خدمة الحكومة التي لا يقبلها إلا كل خاضع لأوامر الإنجليز، ميت الإحساس غير شريف العواطف”.

المفارقة أن الشيخ علي يوسف الذي أسس “المؤيد” بدعم من الخديوي عباس حلمي الثاني لتواجه جريدة المقطم الموالية للاحتلال الإنجليزي وخاض معارك شرسة ضد الانجليز، رفع لواء المهادنة بعد ظهور سياسة الوفاق بين الخديوي والإنجليز.

وبعد عودته من لندن عام 1904، قال الشيخ علي يوسف صراحة: “يجب على المصريين أن يتركوا طلب الجلاء وأن يكتفوا بإدخال الإصلاحات في البلاد”، وهو ما فتح باب الهجوم عليه من زعماء الحركة الوطنية وعلى رأسهم محمد فريد، الذي انحاز له في مطلع حياته.

للحديث بقية عن الشيخ علي يوسف صاحب أشهر قضية “تطليق” في تاريخ الصحافة المصرية.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock