منوعات

الإنسان و”الروبوت” .. هل نقترب من زوال الفوارق؟

قبل 50 عاما طرحت رواية فيليب ديك Do Androids Dream of Electric Sheep? (هل تحلم الروبوتات بالخراف الكهربائية؟) سؤالا مهما حول مفهوم الإنسان. تدور أحداث الرواية، وأفلام Blade Runner التي قامت عليها، وآخرها  فيلم Blade Runner 2049، حول العلاقة المتوترة والصراعات الناشبة بين الإنسان البيولوجي والإنسان الاصطناعي “الروبوت”. رغم ذلك، فإن الأهمية الحقيقية للرواية تكمن في الطريقة التي تتحدى بها صورة الإنسان المهيمنة في الثقافة الغربية الحديثة، التي لا يتجاوز تأطيرها للإنسان كونه مخلوقا يتميز ويتمايز بالبشرة البيضاء والذكورة والغيرية الجنسية والعقلانية والنجاح المهني والجمال الجسدي.  

تدور أحداث الرواية حول جهود ريك ديكارد لتحديد ومتابعة وتدمير الروبوتات التي تنتحل شخصية البشر البيولوجيين. لكن ديكارد يواجه مقاومة عنيفه تحول بينه وبين إتمام هذه المهمة؛ إذ أن مصدر دخله، وحياته بوجه عام، يعتمدان بالأساس على قدرته على تحديد الفارق بين البشر والروبوتات. وفي نهاية المطاف يجد ديكارد نفسه مضطرا للاعتراف بإمكانية زوال أية فوارق جوهرية، ما يجعله يعاني من أزمة وجودية حادة تضع هويته وحياته على المحك.

يعتمد ديكارد في التمييز بين الإنسان والآلة على اختبار Voight-Kampff، الذي يجمع بين قياسات التحليل النفسي وردود الأفعال الفسيولوجية للكشف عن مدى قدرة الإنسان (البشري أو الآلي) موضع الاختبار على التعاطف مع الآخرين، والحرص على حياتهم. وتمثل هذه القدرة – بموجب هذا الاختبار – المحك الأساس للحكم على بشرية الإنسان أو آليته، ومن ثم السماح له بالحياة أو العكس. لكن المعضلة تبدأ عندما يدرك ديكارد أن الروبوتات الحديثة تستطيع اجتياز هذا الاختبار من خلال قدرتها على إبداء قدر من التعاطف.

يتمثل رد الفعل المتوقع لدى القارئ على هذه المعضلة في اعتبار الاختبار معيبا، والتوجه إلى البحث عن آلية أخرى تعتمد سمة “إنسانية” أخرى كمعيار أساس للتمييز بين الإنسان والروبوت. المفارقة تحدث عندما يجد ديكارد (والقارئ معه) نفسه مندفعا باتجاه الإقرار بموضوعية ودقة اختبار Voight-Kampff؛ ومن ثم تصبح القدرة على التعاطف هي القيمة الوحيدة التي يجب التعويل عليها للتحقق من إنسانية الإنسان.

يمثل هذا الإلهام نوعا من ’التحديث‘ لمعادلة الفيلسوف الفرنسي، رينيه ديكارت، “أنا أفكر إذن أنا موجود”؛ إذ يقترح ديكارد تطويرها إلى “هي تحب، إذن هي إنسان/تستحق” (ليس من قبيل المصادفة هذا التقارب اللفظي بين اسمي “ريك ديكارد” و”رينيه ديكارت”).

تتخلى هذه الفكرة “ما بعد الإنسانية” عن كافة الأسس العلمية أو الوجودية أو المادية للتمييز بين الإنسان الطبيعي والإنسان الاصطناعي، إلا أنها تستفيد من الإحساس بأن ثمة ما هو خاص وقيم لدى الإنسان. هذا الإحساس هو – في أغلب الأحوال – المحدد الأساس لمعنى “الإنسانية”. إن ما تطرحه الرواية – إذن – هو شكل من أشكال “إنسانية ما بعد الإنسانية”.

على هذا الأساس، لا يمكن إقصاء أي كائن (سواء كان ثديي أو روبوت أو طائر أو نجم أو حجر) من فئة ’البشرية‘ بموجب طبيعته المادية (الجسمانية)، وإنما على العكس من ذلك يمكن تصنيف أي كائن باعتباره إنسانا إذا أبدى تعاطفا تجاه الكائنات الأخرى. وبموجب هذه القاعدة أصبح مصطلح “إنسان” لا يعني سوى “يستحق الوجود”.

ليس هذا مجرد طرح فلسفي، أو حقيقة علمية، أو حتى شطح من خيال. ولكي ندرك دلالته الاجتماعية والسياسية في عالمنا، ليس علينا سوى أن ننظر إلى الوسائل العديدة التي تجرد بها الإنسان من إنسانيته على مدى آلاف السنين، هي فترة وجوده في هذه الحياة. تتضمن هذه الوسائل العبودية والاستعمار والإقصاء والهيمنة والتفرقة العنصرية، وأي شكل من أشكال الظلم الاجتماعي المنهجي، بما في ذلك تقديم بعض الكائنات على أنها “أقل من البشر” من أجل تبرير استغلالها.

لهذا السبب، واجه تصور ديكارد للإنسان، وإحساسه بالذات – وليس فقط مفهومه عن الفارق بين الإنسان والآلة – تحديا جسيما؛ وهو ما أدى إلى تهاوي غريزته الجنسية الغيرية، وتراجع التزامه بقيم الزواج والأسرة والعدالة القانونية والشرطية، وانهيار إيمانه بأهمية النجاح المهني والمالي والاجتماعي في نهاية الرواية، بعد أن كانوا جميعا في عنفوانهم في بدايتها. ورغم تحوله الظاهري إلى إنسان كسير، إلا أنه احتفظ بإحساسه العميق بأهمية الحب غير المقيد أو المشروط تجاه الكائنات الأخرى.

كان بإمكان ديك أن يحلق بهذا البعد في آفاق أرحب، على نحو ما فعلت أوكتافيا باتلر وصمويل ديلاني، وغيرهما من كتاب الخيال العلمي الذين خلفوه؛ لكن هذه التيمة، على أقل تقدير، تمثل جزءا لا يتجزأ من روايته، بما يمنحه الريادة المطلقة. وعلى النقيض، يتجه فيلم Blade Runner 2049­ – أحدث فيلم مقتبس من الرواية – إلى التقليل من أهمية هذا البعد، في الوقت الذي يبرز فيه العلاقة بين ’الإنسان الإنسان‘ و’الإنسان الآلة‘.

ربما يفسر هذا ما استنطقه الفيلم من تعليقات المديح والإطراء، وعبارات الهجوم والنقد؛ فبينما يواصل فيلم Blade Runner 2049 إزالة الحدود بين الإنسان والآلة، يبرز أن كلاهما يسعى – في نهاية المطاف – إلى تحقيق أهداف متساوية، بدرجة أو بأخرى، في المنظور القيمي للرجل الأبيض الغربي؛ وهو ما يقوض الإمكانات الراديكالية السياسية للتجربة ما بعد الإنسانية.

تريلر فيلم Blade Runner 2049

هذه المادة مترجمة

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock