رؤى

وهم المثالية الإسلامية

يبحث الإسلاميون المعاصرون عن المثال الأعلى، والنموذج المختار ليكون هو خطتهم في الواقع العملي، وأعني هنا بالإسلاميين جميع تياراتهم من أول السلفيين مرورا بالإخوان المسلمين وحتى السلفية الجهادية الجديدة.

المثال الأعلى هو الدولة النبوية وتطبيقاتها، كان النبي صلى الله عليه وسلم هو حامل الرسالة، والصحابة هم الذين يطبقونها، ويريد الإسلامي المعاصر أن يقفز عائدا إلي العصر النبوي الأول، بينما هو يعيش في القرن الخامس عشر الهجري والواحد والعشرين الميلادي.

الإسلامي المعاصر يستعيد الطريقة التي سار عليها النبي صلي الله عليه وسلم، حتى استقام له الأمر برعاية الله لتلك الطريقة إلى أن اكتملت واكتمل معها الدين كله، فيصر ذلك الإسلامي  على أن يعتبر المجتمع الذي يعيش فيه اليوم هو نفسه المجتمع المكي، وأن عليه أن يقاومه بتشكيل عصبة مؤمنة في السر حتى يستعيد البعث الإسلامي لأمة لم تعد قائمة اليوم ولم تعد موجودة، فقد غطى عليها تماما غبش الجاهلية.

بعث الأمة الإسلامية الجديد كما كانت أيام الصحابة دون اعتبار للتطور الحضاري والديموجرافي والتقني ودون اعتبار حتى للتطور في الطبيعة البشرية والإنسانية هو مشروع المثالية الإسلامية المعاصرة، والبعث الإسلامي للأمة المفقودة يحتاج  إلى جيل قرآني فريد كجيل الصحابة، ويحتاج  بعث الأمة من جديد أمة خالصة صافية في عقيدتها وفي تصوراتها وفي مشاعرها وفي أفكارها.

المهم هنا في مثالية الإسلاميين أن تكون الأمة الجديدة أمة “تمامية”، لا تحتمل أي تيارات أو اجتهادات أو مذاهب في مسألة العقيدة بالذات، إنها يجب أن تكون لديها عقيدة متطابقة واحدة وأن يتشارك الجميع في التصورات وحتى في المشاعر ذاتها، ويتجاهل ذلك الفريق المثالي المعاصر أن الأمة المسلمة اتسعت، فقد كان عددها يوم وفاة  النبي صلي الله عليه وسلم مائة ألف، وهي الآن تزيد عن المليار ونصف من المسلمين موزعين على أكثر من 50 دولة موزعة على قارات العالم، وأن تلك الأمة قد اكتمل وجودها من حيث مذاهبها العقدية والفقهية والفكرية واللغوية والأدبية واتجاهاتها في فهم الدين وتطبيق التدين بتنويعاته المختلفة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ولم يعد ممكنا حذف تلك الطبقات والتكوينات التاريخية والاجتماعية والإنسانية لصالح مشروع المثالية الإسلامية الجديد.

تذهب المثالية الإسلامية للقفز ما يقرب من 1500 سنة لتقول إننا نريد مجتمعا وأمة كمجتمع الصحابة، ونريد إعادة العلاقات الاجتماعية والدولية والعلاقات الفردية والإنسانية كما كانت في العصر النبوي باعتباره العصر المثالي النموذجي الذي تحقق في الواقع، ومن ثم نريد العودة إلى العصر الذهبي للإسلام. ولأن الأمة أنتجت من خلال تفاعلها مع واقعها وحياتها التي تواجهها طرائق شتى في العقيدة وفي الفقه ومذاهبه وقامت دول على تلك المذاهب  والحركات وظهرت اجتهادات لمجتهدين وفقهاء حاولت التكيف والتأويل مع تطور مسيرة الأمة المسلمة، فإن المثالية الإسلامية تعتبر أن ذلك كله لا صلة له بالإسلام، وأن التنوع  والتعدد والطرائق المتنوعة في الاعتقاد والتفكير يعني أن الأمة قد ضلت الطريق وانحرفت عن الصواب، ومن ثم فإن طرائقها ومناهجها لم تعد تعبر عن المثالية الإسلامية وإنما هي تعبير عن أمة جاهلية لا بد من استبدالها بأمة جديدة متطهرة من الآثام والذنوب وتعبر بشكل تمامي عن حالة الأمة الإسلامية يوم أن ظهر الدين الإسلامي في مكة حتي اكتمل في المدينة.

وتمضي المثالية الإسلامية في مسارها الغافل البسيط السطحي لتقول إن الأمة الجديدة التي نريد نحن بناءها وإنشاءها إنشاءً جديدا على المثال النبوي الأول يجب عليها أن تفهم معنى كلمة “لا إله إلا الله” لأن المعاصرين الجاهليين ليس لديهم تمكن في اللغة العربية لفهم معنى تلك الكلمة والتي تعني أن الحاكمية والتشريع يجب أن يكون لله ومقاومة كل حال يحاول أن ينتزع حق التشريع لنفسه من دون الله.

المثالية الإسلامية وضعت نفسها في مأزق، ليس فقط في مواجهة أنظمة حكم هي تراها لا تحكم بالشريعة وإنما أيضا في مواجهة الأمة والمجتمع نفسه باعتباره مجتمعا لا يفهم حقيقة التوحيد ولا حقيقة “لا إله إلا الله” وهنا خاض هؤلاء المثاليون معارك أهدرت الدماء والأموال والاستقرار في مواجهة نظم الحكم في دولهم، كما خاضوا معارك كبيرة ضد مجتمعاتهم ووصموا تلك المجتمعات بالكفر، واعتزلوها وواجهوها وهددوا ثقتها بإيمانها وعقيدتها وتمسكها بدينها الحنيف.

المثالية الإسلامية وهم كبير، يشترك فيها كل تيارات الإسلام المعاصر، لأنها تتعالى علي الواقع، وتتجاهل التاريخ والجغرافيا، وتتجاهل التمدن الإسلامي وتكويناته الحضارية المتنوعة، ومن ثم تجد نفسها في مأزق ضخم يضعها في مواجهة أمتها ويحملها فوق طاقتها ويجعلها تتصدر لمشاريع تخصم من الأمة ولا تفيدها، وتهدر مواردها ولا توظفها.

 المثال الإسلامي في خبرة المسلمين الأوائل هو نموذج للتعلم منه وليس لاستعادته حرفيا، لأنك لن تستطيع استعادته أبدا، كما أن اجتهادات الفقهاء القدامى فيما يتعلق بالجانب الحضاري هي اجتهادات لعصور هؤلاء الفقهاء وليست لعصرنا الذي يجب أن تجتهد له تلك المثالية. وحين تواجه حقائقه ومشكلاته وطبيعة التدين والإنسان والتطور الحضاري والتوزع الكبير للمسلمين بما في ذلك الأقليات المسلمة في العالم ومنها أوروبا ستجد نفسها مضطرة للتخلي عن تلك المثالية والتحلي بقدر من التواضع والإنسانية والعقل والاحترام لمسار تاريخ المسلمين لأخذ العبرة منه والاستفادة من عظاته وآثاره ودروسه.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock