فن

أزمة الإنشاد الديني والفرق الجديدة

لاقت فرق الإنشاد الديني التي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية حفاوة جماهيرية كبيرة، تمثلت في الأعداد الغفيرة من الشباب الذين يحرصون على حضور حفلات هذه الفرق، وأيضا في درجة التجاوب مع ما يقدمه المنشدون الجدد من أعمال.. لكن المؤكد أن هذه الفرق لم تكن لتحصد هذا النجاح الجماهيري، إلا في ظل التراجع الكبير لمدرسة الإنشاد الديني المصرية العريقة، واختفاء الأصوات العبقرية والمواهب الفذة التي شكلت العمد الرئيسة للإنشاد المصري لنحو قرن كامل.

مع بداية الأحداث في سوريا، نقلت عدة فرق من القطر الشقيق نشاطها إلى القاهرة، وبدا أنهم يقدمون لونا جديدا من الإنشاد الذي تغلب عليه الإيقاعات النشطة، ويتجاوب معه الجمهور بالتصفيق والتمايل.. اختارت هذه الفرق نصوصا ذات كلمات سهلة، وألحانا خفيفة للغاية، وحرصوا أن يكون جزءا كبيرا مما يقدمونه صالحا لتردده الجماهير مع الفرقة، وأعادوا تلحين عدد من الموشحات القديمة لتصبح سهلة الأداء، وتلائم الأصوات الضعيفة التي تغلب على الساحة حاليا.

المرعشلي

وتشتهر أيضا باسم فرقة الرضوان، من أهم الفرق السورية التي حققت نجاحا كبيرا في مصر، أسسها عبد القادر المرعشلي في دمشق عام 1982، وأهم أعضائها الإخوة الأربعة: محمد عيد المرعشلي، محمد صفوان المرعشلي، محمد ياسين المرعشلي، محمد رضوان المرعشلي.. وجاءت الفرقة إلى مصر برعاية كاملة من الشيخ علي جمعة مفتي الجمهورية السابق.

فرقة المرعشلي

وحرصت الفرقة على تقديم أعمال مصرية بجانب ما تقدمه من التراث السوري، فاختاروا أغان دينية مشهورة، مثل عليك صلاة الله وسلامه لأسمهان، أو القلب يعشق كل جميل لأم كلثوم، أو لاجل النبي لمحمد الكحلاوي.. كما يقدمون بعض الأعمال المعروفة للمنشدين المصرين من أمثال الشيخ طه الفشني وسيد النقشبندي ونصر الدين طوبار.

المرعشلي يؤدون أغنية بص على أنوار نبينا

أبو شعر

تأسست في سوريا عام 1983، وتتكون من عشرة أعضاء منهم 6 إخوة، هم أبناء الشيخ موفق أحمد إسماعيل أبو شعر، وقد سميت الفرقة في بدايتها باسم الصحابي أبي أيوب الأنصاري، نسبة إل المسجد الذي نشأت فيه بمنطقة الزاهرة في دمشق.. وإضافة إلى المدن السورية، أحيا الإخوة أبو شعر حفلات في عدة دول عربية وإسلامية، منها الأردن ولبنان وليبيا والجزائر وتونس والإمارات وتركيا وماليزيا.. وقد استقرت الفرقة بمصر منذ عام 2012.

فرقة أبو شعر

مثلها مثل فرقة المرعشلي تقدم “أبو شعر” ألوانا مختلطة من الإنشاد السوري البسيط، وبعض الأغاني الدينية المصرية.. وقدمت أعمالها على عدد من المسارح في القاهرة، منها: البالون، وساقية الصاوي، ودار الأوبرا، ومحكى القلعة.. كما تشارك في إحياء ليالي الموالد لآل البيت.

فرقة أبو شعر تؤدي أغنية القلب يعشق كل جميل

تواشيح

هي بالأصل فرقة دمشقية أسسها المنشد السوري عدنان الساسة عام 2005، واعتمدت في الإذاعة والتليفزيون السوري عام 2007، وبعد مجيء مؤسسها وأعضائها إلى القاهرة عام 2012 أعاد تشكيلها باسم فرقة تواشيح، وقدمت عددا من الحفلات على مسارح مختلفة، وإن كانت لم تحقق شهرة بمثل ما حققت فرقتا المرعشلي وأبو شعر.. أصدرت في بداياتها ألبومها الأول بعنوان “لغة الكلام”.

عدنان الساسة

من الأعمال التي قدمتها “مولاي كتبت رحمة الناس عليك”، “أنا في مدح محمد”، و”مدد يا مدد”، و”يا سيدة يا منجدة”، و”يا نور المدينة”، و”يا حبيبى يا نبى”، و”يا قلبى ليه”.

نشيد ليلة القدر للفرقة

الحضرة

فرقة مصرية، حديثة نسبيا، إذ أنشأت عام 2015، على يد الشاب نور ناجح، وتتكون من أحد عشر عضوا، أكثرهم ينتمون إلى طرق صوفية مختلفة.. وبالرغم من أن الفرقة مصرية، إلا أنها سارت على خطى الفرق السورية، في طريقة أدائها، واختيار أناشيدها.. وحققت الفرقة نجاحا كبيرا، لاسيما في حفلاتها التي تقدمها بمركز الربع في شارع المعز.

فرقة الحضرة

تحرص الفرقة على إنشاد قصائد أعلام التصوف، كما تنشد أيضا كلمات بالعامية، تلقى تجاوبا كبيرا من الجمهور، لاسيما الأعمال التي تتضمن مديح آل البيت في مصر، مثل “مدد يا سيدة” و”هنا الحسين”.. ولعل “الحضرة” تتميز حتى الآن بالاقتصار على آلات موسيقية شرقية، وتتجنب استخدام آلات الإيقاع الكهربائية التي تستخدمها الفرق السورية في مصر.

أحيت الفرقة حفلات عديدة على مسارح القاهرة، ومنها المسرح المكشوف في بدار الأوبرا، وساقية الصاوي، ومركز الربع.. كما أحيت حفلات على مسرح سيد درويش بالإسكندرية، وأوبرا دمنهور.. ومؤخرا أحيت الفرقة ليلة بمركز الشيخ إبراهيم في العاصمة البحرينية المنامة.

                                                      نشيد مدد يا سيدة لفرقة الحضرة

تفتقد هذه الفرق جميعا إلى الأداء المشيخي التجويدي، ويؤدي أفرادها أناشيدهم بنفس طريقة الغناء الحديث، فلا تكاد تسمع منهم توشيحا دينيا على أصوله، من ذلك الطراز الفخم الصعب، الذي عرفناه عبر أصوات أعلام كبار، على رأسهم الشيخ علي محمود، وطه الفشني، ومحمد الفيومي، وإبراهيم الفران، ومحرز سليمان، وعبد السميع بيومي، وكامل يوسف البهتيمي.

قصيدة يا نسيم الصبا للشيخ علي محمود

وبينما تتميز المدرسة الإنشادية المصرية بالأداء التجويدي، والبطانة القوية المتماسكة، والثراء النغمي مقاميا وإيقاعيا.. تقدم هذه الفرق ألوانا من الإنشاد السهل، بهدف التجاوب الجماهيري، بعد أن أصبح ترديد الحضور مع المنشد من دلائل النجاح والتفوق.

وبالطبع، لا اعتراض على تقديم أي لون من ألوان الإنشاد أو الغناء، لكن الإشكال يكمن في سيطرة وسيادة هذا اللون السطحي الفقير، لاسيما بين الأجيال الجديدة، مقطوعة الصلة بالتراث العبقري الكبير الذي امتلكته مصر في هذا الميدان.. لذلك نجد بين جمهور هذه الفرق حالة من الانبهار الشديد بأي حركة نغمية، أو أي صعود صوتي إلى درجات أعلى، حيث المقاطعة بالتصفيق وكلمات الإشادة والاستحسان.

الشيخ إبراهم الفران.. وأداء خارق لقصيدة وأجمل منك لم تر قط عيني

بل إن الفرق السورية التي جاءت إلى مصر، جعلت مزاج الجمهور بوصلة لأعمالها وطرائقها، وخالف منشدوها أصول الإنشاد الحلبي العظيم، فلم يكن لهم دور في تعريف الجماهير المصرية بألوان مهمة جدا من الإنشاد لأعلام هذا الفن في حلب وحمص ودمشق.

وقريبا، استمعت لإحدى هذه الفرق، تقدم موشح ما شممت الورد إلا زادني شوقا إليك.. وهو من كلمات بهاء الدين العاملي، ولحنه الموسيقار العملاق زكريا أحمد، للشيخ إبراهيم الفران، من مقام الهزام.. وقد أنشده بعد الفران عدد من الأعلام على رأسهم صاحب الصوت المقتدر الشيخ طه الفشني.. لكن الفرقة كان لها رأي آخر، فقدمت مسخا مشوها، لا يستهدف إلا نيل الاستحسان الرخيص، وإراحة الرأس والحناجر من التدريبات الشاقة التي يستلزمها الأداء وفق الأصول.

الشيخ طه الفشني.. موشح ما شممت الورد

تتمدد هذه الفرق إذن في فراغ كبير، وساحة خلت من الفرسان، وبالطبع، لا يمكن ولا يعقل أن نطالب المنشدين الجدد بأن يملأوا مكانا تركه الفشني أو الفيومي أو حتى نصر الدين الدين طوبار ومحمد عمران.. فلا خبراتهم النغمية، ولا طاقاتهم الصوتية تسمح بذلك، ولو جاؤوا في عصر سبق لما صلحوا أن يكونوا بطانة للفشني أو الفران أو البهتيمي.. لكن سيادة هذه الفرق على الجماهير تفرض علينا أن نطالبهم بأن يجعلوا في إنشادهم مساحة للأداء الأصلي القديم، والحفاظ على ألحان الموشحات كما هي دون تغيير في مقاماتها أو إيقاعاتها.. وأن يبذلوا مزيدا من الجهد والتدريب ليقتربوا من طرائق الأداء الراقي وفق الأصول العريقة لهذه المدرسة الكبرى.. التي يمثلها “يا نسيم الصبا تحمل سلامي” لعلي محمود.. أو “يا أيها المختار” لطه الفشني، أو “أمدح المكمل” لمحمد الفيومي”، أو “شهدت على الربا زهرا نديا” لكامل البهتيمي.. لا تلك الأغاني الخفيفة، من نوع “قمر”.. و”سيدنا النبي يا جماله”.. أو تبديل كلمات أغنية الريس متقال “يا حلوة يا شايلة البلاص” لتصبح “بص على أنوار نبينا”.

الشيخ كامل يوسف البهتيمي.. توشيح شهدت على الربا زهرا نديا

هيثم أبو زيد

كاتب وباحث مصري
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock