رؤى

الإخوان.. وأسئلة الدمج المستحيل

من المستحيل أن يندمج تنظيم الإخوان في دولة حديثة تتطلع إلى إقامة نظام ديمقراطي، إذ إن شروط هذا الدمج ومتطلباته لا تعني من الناحية العملية إلا انتهاء أي شكل من أشكال الوجود التنظيمي للجماعة العجوز.

للإخوان أهداف معلنة، وضعها مؤسس الجماعة حسن البنا، واستمسك بها قادة التنظيم وأعضاؤه عبر عقود، باعتبارها من الثوابت التي لا تقبل المراجعة أو التفريط. يريد الإخوان إقامة دولة إسلامية، تكون نواة لإقامة خلافة على نمط عصور غابرة.. وهم في سبيل تحقيق هذا الهدف يبذلون الوقت والجهد والمال، ويتعرضون للسجون والاعتقال والتعذيب، وكثيرا ما طالت قادتهم أحكام الأعدام.. يبنون تنظيمهم في نفس طويل، وبمناهج تربوية يُسقاها الأعضاء في تؤدة وأناة.. فهل يعاني الإخوان كل هذه المشقة كي ينافسوا على السلطة مدة 4 سنوات ثم يقصون عنها بانتخابات وصناديق؟

سعد الكتاتني

إن الجماعة ترى الوصول إلى السلطة مجرد حلقة في إقامة الدولة الإسلامية الكبرى، وخطوة ستتبعها خطوات، ولا يمكن أن تصل إلى السلطة فتقيم ما تزعمه دولة إسلامية، ثم تترك هذه الدولة لحكم علماني جاءت به أصوات الجماهير بعد 48 شهرا من تحقق المرحلة الأهم في أهداف التنظيم.

سالت المقالات أنهارا في نقد الجماعة، لكن أكثر هذا النقد ينعى على الإخوان بعض المشكلات التنظيمية والإدارية، أو بعض المواقف السياسية أو التصريحات الإعلامية.. ومن أمثلة هذا النقد الساذج، مطالبة الإخوان بالفصل بين العمل السياسي وبين العمل الدعوي… كلما سمعت مثل هذا المطلب تضاحكت في نفسي متسائلا: هل يعلم هؤلاء المنتقدون أي شيء عن جماعة الإخوان؟ هل يعرفون طبيعة بنيتهم الفكرية والتنظيمية؟ ماذا لو وافقت الجماعة غدا على هذا المطلب؟ هل تعني موافقتها مراجعة حقيقية وتغييرا منهجيا وبنيويا أم خداعا ظاهريا، وموقفا مرحليا؟.. كيف لهذا الفصل أن يتم أصلا؟ ومن بإمكانه أن يمنع اتصال السياسيين الإخوان بالدعويين من جماعتهم؟ .. إذا أسست الجماعة حزبا متخصصا في الشأن السياسي فكيف سيتحرر هذا الحزب من سطوة الجماعة ومكتب إرشادها الذي هو صاحب القرار في إنشاء الحزب وتكليف الإخوان في المحافظات بتحرير التوكيلات اللازمة، وهو الذي يحدد من يكون رئيس الحزب ومن يُختار لهيئته العليا.. إن تصور فصل حزب للإخوان عن سيطرة الجماعة هو مجرد وهم وضرب من الخيال لا يأخذه على محمل الجد إلا من يهرف بما لا يعي.

محمد بديع ومحمد مرسي

ومن النقد البائس المنتشر ضد الإخوان، مطالبتهم بتغيير آرائهم الفقهية فيما يخص قيم المواطنة، ومنها ولاية المرأة وغير المسلم.. والتجربة العملية تقول إن الضغط الإعلامي على الجماعة ومطالبتها بمثل هذه المطالب تواجهه الجماعة بتصريحات ترضي النخب، وترفع الحرج، دون تبن حقيقي لرؤى فقهية أو سياسية جديدة، ودون تدريسها للأعضاء ضمن المناهج الدراسية في محاضن الجماعة التربوية… فالجماعة تقول بلسان المقال لا بلسان الحال: تريدون مواطنة؟ نحن مع المواطنة.. تريدون ديمقراطية؟ نحن مع الديمقراطية.. تريدون مساواة؟ نحن مع المساواة.

ومن المهم جدا هنا أن نذكر ونكرر، أن مواقف الإخوان الحقيقية لا تستقى من تصريحات رموز الجماعة في وسائل الإعلام، فللجماعة دائما خطابان: مزيف، مكانه منصات الإعلام وهدفه إرضاء النخب، وحقيقي، تربي الجماعة عليه أعضاءها في الاجتماعات التتظيمية والتربوية ضمن الأسرة والكتيبة والمعسكر.. فكثيرا ما يؤكد مسئولو الأسر للأفراد أن يثقوا فى قياداتهم، وأن يتعاملوا مع بعض التصريحات المعلنة من القيادة عن القبول بالديمقراطية أو بوجود الأحزاب فى الدولة الإسلامية، باعتبارها تصريحات للاستهلاك الوقتي تفرضها «مرحلة» الاستضعاف التى تعيشها الجماعة إلى أن تتمكن بالوصول إلى السلطة والسيطرة على أركان الدولة.

ولأن الإخوان لا يؤمنون بفكرة الوطن، ولا بمبدأ المواطنة، فإن منير الغضبان مؤلف كتاب «المنهج الحركي» الذي قررته الجماعة سنوات طويلة على مرحلة “المنتظم” يطلب من أعضاء الجماعة ألا يأخذوا تصريحات القيادات فى هذا الشأن على محمل الجد، لأنها تصريحات تبغى القيادة منها التقارب مع بعض القوى لمواجهة عدو أهم وأخطر.

منير الغضبان

 

 

 

 

 

 

 

 

ولعل من أهم الشواهد التى ننقلها من كتاب الغضبان وصيته لشباب الجماعة أن يتعاملوا مع حديث قيادات التنظيم عن «عاطفة الوطن» و«عاطفة الأمة» باعتباره اضطرارا فرضته المرحلة، وليس تبنيا حقيقيا لهذه الأفكار، حيث يقول المؤلف فى صفحة 224: «ونود لشباب الدعوة الإسلامية لأن يدركوا هذا المعنى.. ويفقهوه، حين يرون قيادة الدعوة فى مرحلة من المراحل تبحث عن قاسم مشترك بينها وبين بعض أعدائها لتجعلهم يقفون فى صفها ضد عدو أخطر وأكبر.. وحين يرون قيادتهم تقبل الحديث عن عاطفة الوطن أو عاطفة الأمة، أو يتحدثون عن الضعفاء من الفئات المظلومة، بحيث يمثل القاسم المشترك نقاط لقاء مرحلي مع هذا العدو ضد عدو آخر.

للإخوان أفكار رئيسة، تمثل قوام التنظيم، ويتربى عليها الأعضاء، ومن أهمها اعتبار الجماعة صفا ربانيا، وأن الله يصطفي لهذا الصف مرشديه وقادته وحتى أعضاءه، فليس الإخوان حزبا مدنيا عاديا، ولا يقبلون أن يكونوا كذلك، وهم ممتلؤون بشعور الاستعلاء، يقسمون الناس إلى إخوان وعوام، ويصفون من يترك الجماعة بأنه خبث طهر الله منه “الصف المبارك” أو متساقط على طريق الدعوة، لم يستطع أن يقوم بتبعات الأمانة الدعوية.. ومثل هذه البنية الفكرية لا تصلح للدمج في الحياة السياسية المدنية.

والإخوان لا يكفون عن وصف مواقفهم ورؤاهم السياسية بأنها “إسلامية”.. فحين يضعون برنامجا لحزب، يوضح اختياراتهم في السياسة والاقتصاد وحل مشكلات الدولة، فإنهم يعتبرون هذه الاختيارات نابعة من “التصور الإسلامي”، ويقدمون لها “التأصيل الشرعي” من القرآن والسنة، بالرغم من إن هذه الاختيارات عادية جدا، وتحمل غالبا مواقف يمينية ورجعية.. لكنهم يصرون على التمسك باللافتة الإسلامية، لما لها من أثر في جذب جماهير البسطاء لاسيما في مواسم الانتخابات.

وإذا أنشأت الجماعة حزبا يعرف القاصي والداني أنه حزب الإخوان، ثم مارست العمل الدعوي بأفراد يعرف كل الناس أنهم من الإخوان، ثم مارست العمل الخيري من خلال جمعيات ومساجد نوقن جميعا أنها تتبع الجماعة.. ولو افترضنا ما يستحيل من أن هذه المسارات الثلاثة منفصلة عن بعضها، ألا تمثل هذه الممارسة جمعا بين الوظائف السياسية والدعوية والخيرية.. ألن يتأثر الرجل الفقير والمرأة المترملة التي لا دخل لها والمريض الذي لا يجد العلاج ممن يساعدهم الإخوان بالعمل الخيري.. ألن يتأثروا بهذه المساعدة وقت الانتخابات والتصويت؟.. المعادلة واضحة: الجماعة ساعدتني في احتياجي وفقري، فسأمنح صوتي لمرشحي حزبها.

كما أن الإخوان ليسوا كيانا محليا، بل هم تنظيم عالمي، له روابطه في كثير من دول العالم، وله علاقاته السياسية والاقتصادية الضخمة، وله إمداداته المالية التي لا تكاد تتناهى.. سواء كانت هذه الروابط مع أعضاء التنظيم من مختلف الجنسيات، أو مع دول وحكومات، وتمارس الجماعة هذا النشاط الدولي في إطار من السرية، مما يتعارض حتما مع أوهام الدمج والتطوير.

ويحمل الإخوان أفكارا تكفيرية وعنفية، تنضح بها كتابات قادتهم، ويعيش أفراد الجماعة دائما في حالة انتظار للحظة التمكين، التي يرون أنها لن تأتي إلا بمعركة تسيل فيها الدماء ويسقط فيها الشهداء.. أما قبل التمكين، ومن باب المداراة و”فقه الاستضعاف” فيعطي الإخوان كلاما معسولا عن احترام التنوع السياسي، وعن تداول السلطة، وعن المشاركة لا المغالبة.. وهو ما يفسر حالات “الاحتواء” التي تعيشها بعض فروع الجماعة في دول مثل الأردن أو الجزائر أو المغرب.

والإخوان تنظيم سري مغلق، تمثل السرية ركيزة أساسية وجوهرية في فكره وحركته، وترفض الجماعة دائما الإعلان عن عدد أعضائها، أو عن مصادر تمويلها أو عن طريقة إنفاق هذه الأموال، وكان قادة الجماعة دائما هم الأحرص على بقاء التنظيم خارج أي إطار قانوني يمكن متابعته أو محاسبته.. لذا، مطلوب ممن ينادي بالدمج والاستيعاب أن يجيب عن سؤال مهم: من هؤلاء الذين تريد أن تدمجهم؟ كم عددهم؟ وهل سيقبل التنظيم دمجهم جميعا؟ أم سيحتفظ بأعداد كبيرة لا يعلم بهم أحد تحسبا لمعركة قادمة أو ظرف سياسي مختلف؟

يقول القيادي الإخواني الراحل فتحي يكن في كتابه “ماذا يعني انتمائي للإسلام”: “لا يجوز أن تكشف الحركة كل ما عندها من مخططات وتنظيمات، فليس في ذلك مصلحة على الإطلاق، بل إن ذلك يعد جهلا بالإسلام، وتعريضا للحركة وأفرادها لمكر الأعداء”.. أما مؤلف “المنهج الحركي”، فيتحدث عن أهمية السرية، ويلح عليها في مواضع كثيرة من كتابه، فيقول في صفحة 50: “لابد من المحافظة على سرية التنظيم، واختيار مركز سري للتجمع بعيدا عن الأعين، يلتقي فيه الجنود مع بعضهم، ويلتقون بقياداتهم”.

فتحي يكن

قال محاوري: لكن كل ما ذكرته يمكن تغييره، بالتطوير الفكري والنقد الذاتي، والتعلم من تجارب الماضي.. قلت له: إذا كان الإخوان سيتخلون عن تنظيمهم السري، وعن وصف اختياراتهم بالإسلامية، وجماعتهم بالربانية، وإذا كانوا سيعلنون عن عدد أعضائهم، ومصادر تمويلهم، وإذا كانوا سيقطعون روابطهم التنظيمية بالخارج، وسيقبلون بالمنافسة السياسية على أساس البرامج الحزبية، وإذا تخلوا عن أوهام إقامة الدولة الإسلامية، والخلافة المزعومة، وإذا آمنوا حقا بقيم المواطنة، وبحق غير المسلم في تولي كل المناصب في الدولة، وإذا طلقوا أفكار التكفير والقوة وفرض الرأي وانتظار المعركة، وإذا انتقدوا نشيد “هو الحق يحشد أجناده ويعتد للموقف الفاصل.. فصفوا الكتائب آساده ودكوا به دولة الباطل”.. عندها لن يكون للإخوان وجود في الحقيقة.. ووقتها يصبح سؤال الدمج بلا معنى أصلا.

 

هيثم أبو زيد

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock