منوعات

مسجد صالح الجعفري.. رحاب الصوفية الفسيح

الأيدي متشابكة، والأناشيد متواصلة، والحلقات تصدح بالمديح، وتترنم بالذكر والتسبيح، والأجواء روحانية، تزينها هيبة وإجلال لصاحب الضريح، فتتلألأ الأنوار، ويزدحم الزوار.. إنها ساحة مسجد العارف بالله الشيخ صالح الجعفري، بمنطقة الدراسة بالقاهرة، مقر وملتقى الطريقة الجعفرية، ومعلم مقصود من معالم الطرق الصوفية في مصر والعالم.

صالح الجعفري، عالم أزهري، وقطب صوفي، ومؤسس طريقة له أتباع ومريدون، ينتهي نسبه إلى الإمام الحسين بن علي ابن أبي طالب.. ولد في مدينة دنقلا بالسودان عام 1910، وحفظ القرآن صغيرا، والتحق بالطريقة الإدريسية الأحمدية، ثم رحل إلى مصر للدراسة بالأزهر، وتلقى العلوم الشرعية على يد عدد من كبار العلماء، على رأسهم الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ محمد إبراهيم السمالوطي، حيث حصل على الشاهدة العالية والعالمية مع تخصص التدريس.

عين الجعفري مدرسا في الأزهر بقرار من الإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق، وبدأ في إلقاء دروسه، وتحولت حلقته التي يعقدها بالجامع الأزهر عقب صلاة الجمعة إلى ملتقى صوفي وتربوي كبير، يقصدها المريدون والمحبون من داخل مصر وخارجها، لا سيما من السودان, وفي هذه الحلقة تبلورت معالم طريقته، التي تجمع بين التربية الروحية وعلوم الشريعة، ولما وافته المنية عام 1979 دفن في المسجد الذي بناه بحديقة الخالدين بالدراسة، ليصبح ضريحه مزارا ومقصدا للطرق الصوفية عموما، والطريقة الجعفرية على وجه الخصوص.

الشيخ صالح الجعفري

يمثل مسجد صالح الجعفري مركزا رئيسا للطريقة التي أقامت عشرات الفروع في مختلف أنحاء مصر، كما أقامت مركزا جعفريا بكل من ليبيا وماليزيا، وينشغل أعضاؤها بنشاط ديني متنوع، كالاحتفال بالمناسبات الدينية وموالد أهل البيت النبوي، وتنظيم رحلات الحج والعمرة، وبالطبع تحتفل الطريقة سنويا بمولد مؤسسها صالح الجعفري في الخميس الأول من شهر رجب، حيث تقام حلقات الذكر، والإنشاد الديني، والحضرة الجعفرية بجوار الضريح.

الطريقة الجعفرية، واحدة من عشرات الطرق الصوفية المنتشرة بمصر، التي ينضوي معظمها تحت راية المجلس الأعلى للطرق الصوفية، وهو هيئة تضم الطرق المسجلة رسميا، وهي نحو 70 طريقة، تتفرع كلها عن عدد من الطرق الكبرى أهمها: الطريقة الرفاعية، وينتشر أتباعها في مصر والعراق وغرب آسيا، ونسبتها إلى الإمام أبي العباس بن أحمد الرفاعي، ولد ومات ودفن في العراق، ويحمل اسمه المسجد الشهير بميدان صلاح الدين، الذي يضم تحت قبته ضريح الشيخ علي الشباك أحد تلاميذ الرفاعي.

درس الجمعة بالأزهر الشريف للشيخ صالح الجعفري

ومنها أيضا الطريقة الأحمدية البدوية، نسبة إلى شيخ العرب أحمد البدوي، صاحب الضريح المشهور بطنطا، وقد انتشرت الطريقة في ليبيا والسودان وتركيا وعدد من البلاد الأوروبية. ومنها الطريقة الشاذلية، نسبة إلى أبي الحسن الشاذلي المغربي، وضريحه في وادي حميثرة بصحراء عيذاب، ويقصده كل عام آلاف من أهل الصعيد، يوم عرفة، ممن لم يستطيعوا الذهاب إلى الحج.

وكذلك منها الطريقة الختمية، نسبة إلى مؤسسها محمد عثمان الميرغني الختم، ويمتد انتشارها إلى السودان والنيجر والجزائر والمغرب، وشرق وغرب إفريقيا. ومنها أيضا الطريقة البرهانية الدسوقية، نسبة إلى إبراهيم الدسوقي، صاحب الضريح المشهور بمحافظة كفر الشيخ.

ينظم القانون رقم 118 لسنة 1976 عمل الطرق الصوفية ومجلسها الأعلى، ويبين دورها متمثلا في التربية الدينية والروحية بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، وأناط القانون بالمجلس الأعلى الإشراف العام على النشاط الصوفي في البلاد، والموافقة على إنشاء الطرق الجديدة، ورفض أو حظر نشاط الأشخاص والمجموعات غير المسجلة رسميا، والموافقة على تعيين وتأديب وعزل مشايخ الطرق ووكلائهم، والإشراف على الأضرحة والزوايا التي ليس لها أوقاف.

حضرة صوفية بساحة ضريح الإمام صالح الجعفري

ويتشكل المجلس الأعلى من 10 أعضاء ينتخبون من قبل الجمعية العمومية لمشايخ الطرق، ويضم كذلك ممثلا عن الأزهر يختاره شيخ الأزهر، وممثلا عن الأوقاف يختاره الوزير، وممثلا عن وزارة الداخلية وآخر عن وزارة الثقافة، أما شيخ المشايخ رئيس المجلس فيعين بقرار من رئيس الجمهورية.

ويعتبر شيخ مشايخ الطرق وأعضاء المجلس الأعلى رأس الهرم الإداري للطرق في مصر، يليهم مشايخ الطرق، حيث يتولى كل شيخ إدارة طريقته، والإشراف على شؤونها، يليهم إداريا وكلاء المشيخة العامة، وهم منتشرون في كل المحافظات والمراكز، وينسقون مع الجهات الحكومية لتنظيم الاحتفالات والموالد، يليهم النواب، حيث لكل شيخ نوابه الذين ينشرون طريقته بين الأتباع، ثم الخلفاء، ويقع على عاتقهم تنظيم نشاط الطريقة في أحياء أو مساجد محددة، ثم النقباء، ومهمتهم خدمة النشاط العام لأعضاء الطرق، وأخيرا المريدون، وهم الأغلبية الساحقة من الأتباع.

ولا يحظى تمويل الطرق الصوفية بالشفافية الكافية، والمعلن أن أموال الطرق تأتي من تبرعات الأعضاء، وبعض رجال الأعمال، وما ترصده الدولة من مخصصات، أهمها نسبة 10% من أموال صناديق النذور، التي قررها قانون تنظيم الطرق، وتدخل في موازنة المجلس الأعلى.

وتمثل الأضرحة التي تضم قبور آل البيت النبوي وكبار الصالحين والأولياء ركيزة كبرى لدى جميع الطرق الصوفية، فمعظم النشاط الصوفي يدور حول الاحتفال بموالد أصحاب الأضرحة، بالتجمع حولها وتزيينها بالأنوار والأعلام، وجذب الزوار الذين يلقون أموالهم بسخاء في صناديق النذور الملحقة بالأضرحة.

وربما لا نملك حصرا دقيقا بعدد الأضرحة وقباب الأولياء، لكن بعض الدارسين للشأن الصوفي يقدرونها بنحو 6 آلاف ضريح، يشتهر منها نحو ألف، من بينها 294 ضريحا في القاهرة، من أشهرها على الإطلاق ضريح الإمام الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة. أما أشهر الأضرحة في المحافظات، فيمثلها السيد البدوي في طنطا، وإبراهيم الدسوقي في كفر الشيخ، وأبي العباس المرسي في الإسكندرية، وأبو الحجاج الأقصري في الأقصر، وعبد الرحيم القنائي في قنا.

وبالطبع يتفاوت حجم الاحتفال والاحتشاد من مولد لآخر، فبعض الموالد يحضرها المئات، وبعضها يشارك فيه الآلاف، أما الموالد الكبرى فيؤمها مئات الآلاف وربما ملايين، لاسيما في الليلة الأخيرة للاحتفال الذي يستمر أسبوعا، ويطلق عليها في الاصطلاح الشعبي “الليلة الكبيرة”.

وبعد ثورة يناير، تعرضت بعض الأضرحة للاعتداء والحرق من المتشددين، وزادت وتيرة هذه الاعتداءات مع صعود نفوذ التيارات المتطرفة في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، حيث اتهم القيادي الصوفي الشيخ علاء أبو العزايم من سماهم بـ”المتشددين السلفيين” بالوقوف وراء هذه الاعتداءات دون أن يسمي أشخاصا أو جماعات، ووصل الأمر في الأشهر الأخيرة من عهد الإخوان إلى درجة إعلان الشيخ عبد الخالق الشبراوي شيخ الطريقة الشبراوية تشكيل ما سماه “الصوفية الجهادية” لحماية الأضرحة من الاعتداءات، بسبب التقصير الأمني في حمايتها، مؤكدا أن مجموعات أمنية صوفية على استعداد للتدخل والرد على أي عدوان – حتى وإن كان مسلحا- على أي مقام من مقامات آل البيت أو أضرحة الأولياء في مصر، لاسيما بعد تصريحات القيادي الإخواني عبد الرحمن البر، المعروف بمفتي الجماعة بضرورة تحرير مصر من “فكر المقامات”.. وبالطبع لم تأخذ هذه الفكرة طريقها إلى التنفيذ، بسبب ثورة 30 يونيو والإطاحة بحكم الجماعة.

السلفية المدخلية تقوم بهدم اضرحة الصالحين في ليبيا

الحصيلة الرسمية لصناديق النذور في الأضرحة المسجلة تقترب من 10 ملايين جنيه سنويا، لكن من المؤكد أن ملايين أخرى تذهب إلى أضرحة غير مسجلة، وبعضها وهمي، أي مجرد قبة، وشاهد قبر لم يدفن فيه أحد، لاسيما تلك الأضرحة التي لا تشرف عليها وزارة الأوقاف، وتتبع مباشرة للمجلس الأعلى للطرق، خاصة أنه من النادر أن تخلو قرية مصرية من ضريح أو ضريحين، وبعض القرى تضم عشرات الأضرحة والقباب.

في شهر إبريل عام 1979، رحل الشيخ صالح الجعفري، مؤسس الطريقة الجعفرية، فبايع أتباع الطريقة ابنه الأكبر الشيخ عبد الغني الجعفري، وفق تقليد منصوص عليه في قانون تنظيم الطرق الصوفية، يجعل الأولوية في تولي مشيخة الطريقة للابن الأكبر، وكان الشيخ عبد الغني موظفا في سلك التعليم والتربية في السودان، إلى جانب اشتغاله بالعمل العام، فلما توفى أبوه، استقال من الوظائف العامة، وجاء إلى مصر متفرغا لشؤون الطريقة الجعفرية، حتى وفاته في 20 يوليو عام 2012، حيث تولى نجله الأكبر محمد صالح عبد الغني الجعفري مشيخة الطريقة.

ترى الطريقة الجعفرية أن الإنشاد الديني، ومديح النبي محمد وآل بيته، هو أفضل السبل لتهذيب النفس والقرب من الله، ويعتمد أبناء الطريقة في حلقاتهم بشكل رئيس على الأشعار التي وضعها مؤسس الطريقة، والتي يضمها “الديوان الجعفري”، وهو مجموعة كبيرة من قصائد المديح والزهد والدعوة إلى السمو الروحي والأخلاقي.

وتتعانق مآذن مسجد صالح الجعفري مع مآذن الجامع الأزهر، حيث تكونت الطريقة الجعفرية، وأيضا تتعانق مع مآذن مسجد الحسين حيث ينتهي نسب مؤسس الطريقة، كما تجاور مقر المجلس الأعلى للطرق، الذي لا يتجاوز مجرد شقة صغيرة بأحد عمائر حي الحسين، وهو أمر يثير التعجب، لذا يطالب كثير من المشايخ ببناء مقر جديد يليق بالمشيخة العامة.

هيثم أبو زيد

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock