رؤى

الإرهاب الأسري والانتحار الجماعي.. محاولة للفهم

عرفت مصر اشتراك أسرة واحدة في عمل إرهابي عام 2005، في القضية التي اشتهرت إعلاميا بـ”تفجيرات الأزهر وعبد المنعم رياض وميدان السيدة عائشة”، حيث شارك ثلاثة أشقاء في حادثي عبد المنعم رياض وميدان السيدة عائشة وهم  “إيهاب يسري” الذي فجر عبوة ناسفة وسط جمع من السائحين بميدان عبد المنعم رياض وقتل نفسه وأصاب أربعة سائحين وثلاثة مصريين وتشارك معه في القضية شقيقيه محمد يسري وتامر يسري، ونفذت أخته نجاة يسري ياسين مشتركة مع صديقة لها كانت مخطوبة لأخيها القتيل محاولة إطلاق نار على أتوبيس سياحي بميدان السيدة عائشة لكنهما فشلتا في إصابة السياح داخله لعدم قدرتهما على التصويب، بيد أنهما تخلصتا من حياتهما بإطلاق إحداهما النار على الأخرى قبل أن تقتل نفسها.

محمد يسري  وإيهاب يسري

مسرح للموت يستهدف الإنسان فيه قتل نفسه وقتل أحبائه وقتل من لا يعرفهم ممن يستهدفهم بالموت وهم سياح أجانب قدموا إلى بلده مستأمنين عبر جواز سفر منحهم الأمان ومن ثم يحرم التعرض لهم ومضايقتهم فضلا عن الاعتداء علي حياتهم، في هذه القضية كانت هناك شبكة من الجيران والأصدقاء والزملاء استغلوا تاريخ العلاقة الطيبة والحميمة بينهم لتكون أساسا لإرهاب غير منطقي يتحول فيه الموت إلي غاية في ذاته.

يتجمع من يُفترض أن يكون لديهم مشروع للمحبة والسعادة والتمتع بالحياة من أجل الاتفاق على مشروع للموت.. بينما حرم الإسلام تعمد قتل الإنسان لنفسه لأن حياته ليست ملكا له، وإنما هي هبة الله له، وأنه لا يجوز أن يتصرف فيها إلا وفق مقصود واهب الحياة.

وقد قال القرآن الكريم: “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك…” ولو كان لي أن أجتهد هنا في فهم الآية فإنني سأقول إن معنى وأحسن كما أحسن الله إليك، أي قابل أيها الإنسان إحسان الله لك بمنحك الحياة والوجود بالحفاظ عليهما والاحتفاء بهما وحمايتهما فيما ينفع، ولا تقابل إحسانه بالإساء والإلحاد والتمرد بالتخلص من أغلى ما منحك الله وهي الحياة بالانتحار والأذي لنفسك ومن تحب ومن لا تعرف وهم  الذين تقصدهم بقتل نفسك.

نظرت لصورة الأسرة الإندونسية التي قسمت نفسها لثلاث فرق انتحارية للتخلص من حياتها قاصدة إيذاء نفسها وأحبابها من بقية أعضاء الأسرة بما في ذلك الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين تسع سنوات واثني عشر عاما، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الإرهاب السياسي في إندونسيا الذي يُشارك فيه الأطفال، وبدت الأسرة في الصورة وكأنها تستعد لملحمة تحقق بها حالة فناء جسدي عبورا متجاوزا إلى عالم الآخرة.

كيف جرؤ أب على أن يقنع أسرته الأندونسية المسالمة بالتحول إلى قنابل متفجرة في مواجهة مواطنيهم المسيحيين، ليُقدموا على تفجير أنفسهم في ثلاث كنائس، الأب يتوجه إلى كنيسة وحده مستقلا سيارة مفخخة  ويفجرها، والأم وطفلتيها تذهبان لكنيسة أخرى وتفجرها، والولدان المراهقان البالغ عمرهما تسعة عشر عاما وستة عشر عاما يستقلان دراجة بخارية ويفجران كنيسة ونفسيهما.

كيف هان على الأب أولاده؟ وكيف هانت على الأم فلذات أكبادها؟ نحن أمام تراجيديا مرعبة تحمل طابعا مهدويا يرى أنه بفعل الموت والفناء يقترب القاتل من عالم الآخرة، ليجاوز عالم الظلم وغياب العدالة إلى عالم يستحق فيه حياة أفضل، في عالم من النقاء والخلاص والسكينة.

تبنى تنظيم “داعش” العملية التي راح ضحيتها أحد عشر شخصا وأصيب أكثر من أربعين، وكانت الأسرة قد سافرت إلى العراق لتنضم للتنظيم الإرهابي المتوحش قبل أن تعود لتنفذ تلك العملية التي اختارت أهدافا رخوة لمتدينين يصلون، كل جريمتهم أنهم مختلفون في الدين وفي العقيدة مع التنظيم.

لا يرتبط سلوك القتل بدين معين، فوقائع الانتحار الجماعي تراوحت بين الإحباط بسبب عدم زراعة القطن في الهند إلى الانتحار بسبب عدم الوقوع في يد المحتلين كما في بعض مناطق ألمانيا وجزر اليابان في الحرب العالمية الثانية، إلي أسطورة  “ماسادا: أو اليهود الذين قتلوا أنفسهم قبل سقوط قلعتهم في يد الرومان، إلى حادثة الانتحار الجماعي المروعة للطائفة  التي كان يقودها “جيم جونز” بولاية كاليفورنيا والذين انتحر منتسبوها بسم السيانيد وحامض الفليوم في “جونز تاون” عام 1978 وبدأت حفلة الانتحار بقتل الأطفال ثم النساء ثم الرجال ثم بإطلاق قائد تلك الطائفة النار علي نفسه.

ويبدو تنظيم الدولة ومنتسبوه أقرب لحالة طائفة “معبد الشمس” حيث يخلق التواجد في مكان واحد توحدا في الأفكار والاستجابات والمصير المشترك، وتنشأ حالة من الذوبان الفردي في المجموعة التي يتواجد معها بحيث يصبح عقل المجموعة وفعلها ومصيرها واحدا، ويملك قائدها توجيهها حيث يريد، إذ يُنظر إليه كمخلص نحو عالم أفضل.. هذا هو السلوك الجمعي المريض الذي يقود للموت.

الإسلام والمسيحية واليهودية لا علاقة لهم بما يسلكه المنتسبون إليهم من حوادث قتل مفجعة ذات طابع انتحاري جماعي لما يبدو أنه غالبا طوائف منشقة علي هوامش الديانات الكبرى، لكنها لا تمت لها بصلة، وإنما لذلك صلة بدراسات السلوك الجمعي وديناميات الجماعات الصغيرة والحركات الاجتماعية التي تلعب علاقات الجيرة والصداقة والزمالة خلالها دورا مهما في بناء حالة روحية ذات طابع صوفي يمكن أن تقود إلى الذهاب لمصير جماعي واحد حتى لو كان الموت.

الأسرة الإندونسية في لحظات ما قبل الموت كانت قد وصلت لقناعة أن حياتها هي في الموت، وأن حياة أفضل لها ستكون  باستهداف عدد أكبر من الأحياء ليموتوا.. تنظيم الدولة خطر على الإنسان وعلى الحياة وعلى العصر والعالم والحضارة الإنسانية كلها، وهو تنظيم انتحاري متوحش لأسباب متصلة بطبيعته ونشأته وسلوك أعضائه وعلاقاتهم معا وبقائدهم وبطبيعة الأيديولوجية التي تجعل من قيامة الناس وموتهم لحظة مجاز نحو حياة أفضل في الآخرة.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock