رؤى

محمد عبده.. الأستاذ المعلم

بعد أن أتم حفظ القرآن في كتاب القرية، حمله أبوه على الذهاب إلى الجامع الأحمدي بطنطا ليجود الكتاب الكريم، وقضى الفتى محمد عبده سنة ونصفها يتلقى دروس التجويد لا يفهم منها شيئا، فهرب إلى أخواله مدة ثلاثة أشهر إلى أن عثر عليه أخوه، فأراد أن يعيده إلى طنطا، لكن محمد أبى، ليعود إلى قريته ويتزوج ويعد نفسه للعمل مع أخوته وأبيه في فلاحة الأرض.

لم ييأس الشيخ عبده، فأعاد الكرة مع ابنه، وحادثه في السفر مجددا لطلب العلم بالجامع الأحمدي، وبعد تمنع واحتجاج اضطر الفتى أن يساير أباه، فسافر لكن إلى قرية أخواله لا لطنطا حيث الجامع الأحمدي، ليلقى أحدَ أقاربه، صوفي يدعى الشيخ درويش، حبب إليه طلب العلم، لينطلق بعدها راغبا لا مرغما إلى الجامع الأحمدي، ومنه إلى الجامع الأزهر.

درس محمد عبده ثلاث سنوات بالأزهر لم يفد منها الكثير، فانقطع عن الدراسة وانعزل عن الناس وراض نفسه على طريقة السادة الصوفية، وإن ظلت روحه تواقة إلى علم لم تعرفه أروقة الجامع الشريف، وسمع في عزلته عن قدوم عالم كبير إلى مصر يدعى جمال الدين الأفغاني، فسعى إليه وكان اللقاء الذي أخرجه من ضيق العزلة إلى رحابة العلم والمعرفة، فدرس على يد الأفغاني الرياضيات والفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وخاض معه غمار السياسة، فأسس عبده معه الحزب الوطني الحر، في محاولة  لعزل الخديوي إسماعيل بسبب سياساته التي أغرقت البلاد في الديون وعظَّمت من النفوذ الأجنبي بمصر، وإلى جانب السياسة راسل محمد عبده الصحف ونشر العديد من الكتابات التي تدعو للإصلاح، وفي هذه الأثناء حصل على شهادة العالمية من الأزهر، ليشتغل بالتدريس في الجامع الشريف، فدرس مباحث: المنطق وعلم الكلام والأخلاق، كما عمل أستاذا للتاريخ بمدرسة دار العلوم، وأستاذا للأدب بمدرسة الألسن.

الخديوي إسماعيل

وبعد عزل الخديوي إسماعيل وتولية توفيق (1879)، عَين رياض باشا رئيس الوزراء عبده محررا للجريدة الرسمية “الوقائع المصرية”، ليصبح بعد فترة قصيرة رئيسا لتحريرها، فأحالها من مجرد نشرة رسمية للحكومة إلى منبر لدعوة التعليم والإصلاح الاجتماعي والسياسي.

وانشغل محمد عبده بتلك الدعوة إذ رأى أن التعليم والإصلاح التدريجي هو سبيل التغيير الملائم لحال البلاد وأهلها.

 هذه الرؤية حرضته على رفض تحركات العسكر المناهضة لأوضاع البلاد المتدهورة حينها، محذرا من أن هذه التحركات قد تفضي إلى الاحتلال الأجنبي، لكن العرابيين استطاعوا إقالة وزارة نوبار باشا الموالية للإنجليز، وتعيين أحد قادتهم وزيرا للحربية هو محمود سامي البارودي، إلى جانب فرض الدستور.. هذه الانتصارات صورت لمحمد عبده إمكانية إنفاذ حلم التغيير دفعة واحدة لا تدريجيا كما هداه رأيه الأول، فتخلى عن رؤيته تلك وانضم إلى الثورة، داعية وقائدا من أبرز قادتها، وتسارعت الحوادث ليهزم عرابي ورفاقه أمام الجيش الإنجليزي، وتخضع البلاد للاحتلال، ليُنفى محمد عبده مع قادة الثورة، فيختار سوريا منفى، وينتقل منها إلى فرنسا بدعوة من أستاذه الأفغاني، ليؤسسا معا جريدة “العروة الوثقى”، وقد بلغ أثرها في النفوس حدا دفع الإنجليز إلى محاصرتها بجميع البلاد الإسلامية الخاضعة لسلطانهم، ففي الهند أقرت السلطات سنتين حبسا وغرامة مائة جنيه لمن يضبط بعدد من أعداد الجريدة، وفي مصر فُرضت غرامة على حائزها تراوحت بين خمسة إلى خمسة وعشرين جنيها، وحال هذا الحصار دون استمرار الجريدة، فتوقفت بعد صدور ثمانية عشر عددا.               

 انتقل محمد عبده بعدها إلى بيروت، وعين مدرسا بمدرستها السلطانية، ليلقي بها دروسه المشهورة في علم الكلام، والتي كانت نواة لأحد أهم مؤلفاته “رسالة التوحيد”، وبدأ تفسير القرآن بمنهج علمي حديث لم يسبقه إليه أحد عبر دروس ألقاها بالمسجد العمري، كما أسس مع آخرين جمعية سرية للتقريب بين الأديان السماوية الثلاثة، وهو ما أقلق الآستانة فسعت لإعادة الأستاذ الإمام إلى مصر، وتلاقت جهودها مع محاولات تلميذه سعد زغلول، ليُسمح لمحمد عبده بالعودة بعد ست سنوات قضاها في المنفي (1888).

الخديوي توفيق

 ارتداد محمد عبده إلى مصر اقترن بارتداده عن منهج الأفغاني في التغيير، فطلق عبده السياسة ولعن “ساس ويسوس وسائس ومسوس”، ورجع إلى رؤيته الأولى في الإصلاح أفقيا من خلال تعليم وتربية الجماهير على النظم الشورية وعلى القيم المتعلقة بها، وهو ما اتفق مع طبيعة تكوينه معلما ومربيا.

 بعد عودة محمد عبده نحا الخديوي توفيق منحى دل على أن ما فات لم يمت، فإن كان قبل رجوع الإمام بوساطة الأميرة نازلي فاضل وضغط المعتمد البريطاني اللورد كرومر لكنه رفض أن يعيد الأستاذ الإمام للتدريس بالأزهر، ليعين قاضيا بالمحكمة الشرعية، بينما نحا محمد عبده منحى دل على أن ما فات مات، فلم يجد بد من التعاون مع إدارة الاحتلال لتمرير مشروعه الإصلاحي خاصة في ظل الود المفقود بينه وبين الخديوي توفيق، فقدم لكرومر الحاكم الفعلي للبلاد اللائحة التي وضعها لإصلاح التعليم في مصر، ولم تنقطع محاولاته في هذا الجانب، فاتصل جهده إلى عهد الخديوي عباس حلمي الثاني بعد وفاة توفيق، وأفسح الحاكم الجديد مساحة أكبر لحركة الأستاذ الإمام الإصلاحية، فأنفذ ما جاء بمذكرة تقدم بها محمد عبده إليه في لقائهما الأول، ليتم تشكيل مجلس إدارة للأزهر وإقرار العديد من القوانين لضبط وتنظيم شؤون المؤسسة الدينية، كما خصص الخديوي إعانة مادية للجامع الشريف قدرها ألفا جنيه، وأصدر قرارا بتعيين محمد عبده مفتيا للديار المصرية، لكن سرعان ما انقلب عباس حلمي على محمد عبده بعد تصدي الأخير عند محاولة الخديوي الاستيلاء على أراض للأوقاف.

 وتمثلت علاقة الأستاذ الإمام بإدارة الأزهر سيرته مع القصر، لتتأرجح ولا تستقر على حال، فتعثرت جهوده لإصلاح الأزهر في عهد شيخه سليم البشري (1899- 1903) وأفسح لها الشيخ علي الببلاوي (1903- 1905) مجالا، فأغضب ذلك الخديوي عباس ليجبر الببلاوي على الاستقالة، واستيأس محمد عبده من محاولاته عند تعيين الشيخ عبد الرحمن الشربييني فقدم استقالته من الأزهر عام 1905.

أفكار الإمام الإصلاحية اتخذت مسارات عدة، فلم تقف عند عتبة الأزهر، إذ كان من أوائل من سعوا لإنشاء جامعة أخرى تقوم على تدريس العلوم وفق المناهج الحديثة، وأقنع أحد الثراة بأن يوقف أرضا لهذا الغرض لكن الأجل عاجله فتوقف المشروع، وإليه يرجع الفضل في تأسيس مدرسة القضاء الشرعي، كما أسس مع آخرين الجمعية الخيرية الإسلامية، وأنشأ جمعية إحياء الكتب العربية القديمة لنشر كنوز التراث، واستكمل بعد عودته إلى مصر دروس تفسير القرآن تفسيرا عقلانيا عصريا بث من خلاله هذه الروح إلى تلامذته ومريديه، وذاعت شهرته في العالم الإسلامي قاطبة من خلال ردوده على وزير الخارجية الفرنسي هانوتو والكاتب فرح أنطوان اللذين نشرا كتابات هاجما فيها الدين الإسلامي وانتقدوا آراء نسبوها إليه، فجاء رد الأستاذ الإمام بحسب المستشرق تشارلز آدمز “ردا قويا مفحما، أذاع شهرته في العالم الإسلامي، وجعله أقدر المحدثين في الدفاع عن الإسلام”.

 خاطب محمد عبده المستقبل بأفكاره فحاصرها دعاة التقليد وأنصار الماضي، ليسلك الأستاذ الإمام كل سبيل تراءا له لفك حصارهم، فلم يكل يوما عن الفكر والعمل منذ شبابه الباكر بشهادة تلميذه وصديقه المجدد قاسم أمين: (فكان يطالع ويتعلم، ويحرر “الوقائع المصرية”، ويلهم الثورة العرابية، وينشر دعوة “العروة الوثقى”، ويشتغل بالقضاء في المحاكم، ويعلم في الأزهر، ويصدر الفتاوى في الشؤون الدينية والاجتماعية، ويجلس الجلسات في مجلس شورى القوانين، وفي مجلس الأوقاف الأعلى، ويشرف على أعمال الجمعية الخيرية الإسلامية، ويضع مشروعات الإصلاح للأزهر والمحاكم الشرعية، ويؤلف الرسائل الدينية، وينشر المقالات الفلسفية، ويفسر القرآن الكريم، ويدافع عن الإسلام ويرد على منتقديه، ويراسل علماء المسلمين ويصادق أفاضل الغربيين، وينفق من ماله على الفقراء والمحتاجين، ويسعى إلى البر وإغاثة المنكوبين).

 ظل الأستاذ الإمام على حاله يغالب الحجب التي حاولت طمس رؤاه إلى أن وورى الثرى في يوليو 1905، فاحتجب بشخصه وتجلى بأفكاره التي تكونت حولها مدرسة توزع تلاميذها على امتداد العالم العربي، فكان بحق كما نُقش على قبره: هو الحي الباقي.

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock