منوعات

الكواكبي .. «عرضحالجي الحرية»

هل كان عبد الرحمن الكواكبي “1854- 1902م” علمانيا داعيا إلى فصل الدين عن الدولة؟، أم من دعاة تجديد الدين الإسلامي لتتجدد به دنيا المسلمين وينصلح معه حال البلاد والعباد؟.

قبل سنوات ليست بقليلة أثار ذلك التساؤل معركة كبيرة كان طرفاها، “جان دايه” الكاتب والمفكر اللبناني وعضو الحزب القومي السوري الاجتماعي، والدكتور “محمد عمارة” الكاتب والمفكر الإسلامي المصري.. الأول حاول عبر سلسلة من الأبحاث والدراسات جمعها في كتابين “صحافة الكواكبي” و”الإمام الكواكبي.. فصل الدين عن الدولة” إثبات أن الكواكبي هو أول علماني مسلم قال بفصل الدين عن الدولة سنة 1899، سابقا بذلك الشيخ علي عبد الرازق صاحب كتاب “الإسلام وأصول الحكم” الصادر سنة 1925.

علمانية الكواكبي بين عمارة وجان دايه

ضم دايه في كتابيه، عددا من مقالات الكواكبي في صحيفتي “الشهباء” و”اعتدال”، تثبت أن الكواكبي كان من الداعيين إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة أو إلى “علمنة الإسلام”، منها ما كتبه الرجل في “طبائع الاستبداد ومصارع الاستبعاد”: “هذه أمم النمسا وأمريكا قد هداها العلم إلى طرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري، فما بالنا لا نفكر في أن نتبع إحدى تلك الطائق أو شبهها”.

أما الثاني “عمارة” وهو كاتب ومفكر أصولي إسلامي فحاول دحض ما ساقه دايه، في مقدمة الطبعة الأخيرة من كتابه “عبد الرحمن الكواكبي.. الأعمال الكاملة”، مستندا إلى ما أورده أصولي آخر يعتبره البعض المؤسس الفعلي لتنظيم الإخوان المسلمين وهو رشيد رضا أستاذ مؤسس الجماعة ومرشدها الأول حسن البنا، ساق رضا ما يدعم أن الكواكبي كان من أصحاب الدعوة إلى العودة إلى الأصول والدولة الإسلامية، معتبرا أن الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة “قد تفوقت على كل دعاوى المفسدين من أعداء الإسلام عبر التاريخ وإنها تفوقت على أحلام أبليس”.

 

ونقل عمارة عن رضا قوله إن “كل من يدعو إلى فصل الدين عن الدولة هو مارق غادر وما جاءته حريته إلا من رق الكفار”، نافيا أن يكون الكواكبي هو من كتب سلسلة مقالات في جريدة “المقطم” باسم مستعار “مسلم حر الأفكار”، يثبت فيها علمانية الإسلام ويضرب الأمثلة بأن الأمم والدول التي فصلت الدين عن الدولة تقدمت وتحضرت فيما غرق المسلمون في تخلفهم بسبب خلط المقدس الثابت بالمتغير.

الكواكبي والدولة المدنية

بعيدا عن تلك المعركة التي لم يستطع أحد الطرفين حسمها، فدعونا نلقي الضوء في هذه المساحة على مسيرة الكاتب الثائر عبد الرحمن الكواكبي، الذي آمن بالدولة الدستورية الديمقراطية، وبشر بأداوات الدولة المدنية، وخاض معاركه في سبيل إقامة دولة على أسس الحرية والعدل والمساواة، وقدم للعرب أهم مؤلف يتحدث عن الاستبداد وتوابعه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستبعاد”، وتحول هذا المؤلف مع الوقت إلى دستور لكل الداعيين إلى  الحرية الرافضين للدكتاتورية والظلم.

 ولد الكواكبي عام 1854 في مدينة حلب السورية التي عاشت تحت الحكم العثماني أكثر من 3 قرون قبل أن يولد مفكرنا الكبير، ويعود نسبه أبا وأما إلى الأمام علي أبن أبي طالب، عمل أبوه أمينا للفتوى مدة من الزمن، ودرس عبد الرحمن الأبن الأدب والعلوم السياسية والتاريخ والفلسفة إلى جانب العلوم الشرعية واللغوية.

معركة الكواكبي مع “عدو الصحافة الأول”

بدأ الكواكبي عمله محررا صحفيا بجريدة “الفرات” الحكومية، التى كانت تصدر بالتركية وترجمت للعربية، ولكنه لم يكن حرا فى التعبير عن آرائه فاستقل عنها بعد نحو عام، وأصدر في سنة 1878 وهو لايزال في الرابعة والعشرين من عمره جريدة “الشهباء” وكانت أول صحيفة عربية تصدر فى حلب، وأخذت مقالاته النارية العميقة توقظ ضمائر مواطنيه كما أيقظت كذلك سيف الوالي العثماني “كامل باشا القبرصي” الذي أصدر قرار بإغلاقها وتدرج هذا الوالي فيما بعد في مناصب الدولة العثمانية حتى صار “صدرا أعظم”، ولقب بـ”عدو الحرية والصحافة الأول”.

لم يستسلم الكواكبي لهذا المصير، وأسس في العام التالي 1879 جريدة “اعتدال”، واصل فيها كفاحه ضد الدولة العثمانية بتخلفها وظلمها واستبدادها، فواصل الأتراك اضطهادهم له، وقرر واليهم الجديد “جميل باشا” إغلاقها، وعندما فشل العثمانيون في مواجهة هذا الثائر حاولوا ترويضه واحتوائه، فعينوه في عدد من لجان الولاية “المعارف والمالية والأشغال”، وفي سنة 1881 أصبح مديرا فخريا للمطبعة الرسمية بحلب، ثم دخل عضوا بمحكمة التجارة في الولاية، وعين رئيسا للغرفة التجارية وبعد عامين صار رئيسا لكتاب المحكمة الشرعية، وأصبح بعد ذلك رئيسا لكل من غرفة التجارة ولجنة البيع في الأراضي الأميرية.

ورغم أن الكواكبي كان مقدرا له بحكم النسب والعلم والكفاءة أن يكون من رجالات الدولة أو من الأعيان، إلا أن انحيازه للفقراء دفعه إلى دراسة الحقوق، وصار مكتبه للمحاماه في حلب قبلة للبسطاء والمستضعفين حتى لُقب بـ”أبو الضعفاء” يحرر لهم العرائض والشكاوى ضد الولاة العثمانيين فأصبح “عرضحالجي الحرية”.

التف الناس حول الكواكبي وساندوا نضاله، فيما تربص به الأتراك، فعندما أطلق المحامي الأرمني “زيرون جقما قجيان” نيران سلاحه على والي حلب العثماني “جميل باشا” عام 1886 اغتنم الوالي تلك الفرصة وأودع الكواكبي السجن باعتباره محرض، فثارت الجماهير تطالب بالإفراج عنه فاضطر الأتراك إلى إطلاق سراحه، وعندما عزل الوالي “جميل باشا”، عينه الوالي الجديد رئيسا لبلدية حلب ليضمن ولائه.

الكواكبي يواجه الإعدام

وفي وقت لاحق زور الوالي التركي “عثمان باشا” وثائق تدين الكواكبي بالاتصال بدولة أجنبية والاتفاق معها على تسليم حلب لها والتخطيط لاغتيال الوالي، فأودع صاحبنا السجن للمرة الثانية، وحكم عليه قضاء المرتشي الولاية بالإعدام، فثار أهل حلب احتجاجا على الحكم وتحول الكواكبي إلى قضية رأي عام في ولايات الخلافة العثمانية وتصدرت أخباره الصحف، نجحت الحملة في إجبار السلطات على إعادة محاكمته في بيروت بعيدا عن الوالي ونفوذه وهيمنته على قضاء حلب، لتبرئ المحكمة البيروتية ساحة الكواكبي ويعود إلى حلب محمولا على رؤوس أهلها، وفقا لما أورده محمد عمارة في كتابه “عبد الرحمن الكواكبي.. الأعمال الكاملة”.

وأضاف عمارة في نفس الكتاب، أنه عندما بلغ الصراع بين الكواكبي والسلطة العثمانية مداه، أخذ الأتراك يدبرون له من المكائد والمؤامرات ما هو أكثر إرهابا من السجن فسلطوا عليه بعض العصابات تحرق مزرعته وحرضوا عليه جماعة من الأرمن فاعتدوا عليه بالطعن، وهو ما دفعه إلى السفر إلى استانبول لفترة عاش فيها متخفيا، ثم استقر به المقام في مصر عام 1899، ملبيا دعوة الشيخ جمال الدين الأفغاني.

الكواكبي في مصر “دار الحرية”

في مصر تحرك الكواكبي في مساحة خلقها الخلاف المستعر بين الخديوي عباس حلمي الثاني والسلطان العثماني عبد الحميد الثاني من جهة بالتزامن مع محاولات الخديوي جذب رواد حركة التجديد العربي إلى بلاطه ليقاوم بهم الاحتلال الإنجليزي من جهة آخرى.

قرب الخديوي عباس الكواكبي منه وخصص له راتبا شهريا قدر بخمسين جنيها، وتعرف الثائر العربي على النخبة المثقفة المصرية وأصدقائهم من باقي البلدان الذي أتوا إلى مصر كملاذ، ومنهم الأفغاني والشيخ على يوسف والنديم وصار من رواد قهوة “يلدز”

وبينما أنجز مفكرنا كتابه الشهير “أم القرى” في حلب، فكان “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” هو أول ما نشره الكواكبي عند وصوله القاهرة، وإن كان حفيده الدكتور عبد الرحمن الكواكبي يرجح أنه ألف الكتابين في حلب ونشر الثاني في القاهرة فقط، ألا أن البعض ذهب إلى أن “الطبائع” هو مجموعة من المقالات نشرها له الشيخ علي يوسف في صحيفته “المؤيد”.

كان الكواكبي يرى أن “مصر دار العلم والحرية، وأن النهضة العثمانية بفروعها مسبوقة في مصر ومقتبسة منها”، وهو ما ساعده على إنجاز كتابيه، “فالإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد”، هكذا كان يرى صاحبنا مصر المحتلة الحرة في آن واحد.

في مقالاته وكتبه ركز الكواكبي على إعلاء قيم الدولة المدنية معتبرا أن “الدستورية والشورى” هما  الركيزتان اللتان سيعبر بهما العرب دائرة الانحطاط والتردي، محذرا من مخاطر الاستبداد، معترفاً بأنّ فكره قد استقر “بعد بحث ثلاثين عاماً على أن أصل الانحطاط هو الاستبداد السياسي، ودواؤه هو الشورية الدستورية”.

نهاية درامية على قهوة “يلدز”

 نكد الكواكبي بمقالاته وتحركاته على العثمانيين، وأثار جماهير القاهرة وباقي عواصم الخلافة ضد ظلم الأتراك واستبدادهم وتخلفهم، فاستأجروا أحد العملاء ليذهب إلى مقهى “يلدز” ويدس له السم في القهوة، فأدركته المنية في 14 يونيو من عام 1902، فأصاب الحزن كل الأحرار والمناضلين في العالم العربي، وشيع جثمانه في جنازة رسمية شعبية حضرها مندوبا عن الخديوي عباس، ودفن بباب الوزير على نفقة الخديوي، وأقام له صديقه الشيخ علي يوسف صاحب “المؤيد” مأتما كبيرا لمدة ثلاثة أيام، وكتب المصريون على قبره “الشهيد”.

لم يكتف السلطان عبد الحميد بقتل الثائر العروبي الذي استقر في مصر بحثا عن “الحرية”، بل بعث برسول ثان هو عبد القادر القباني صاحب جريدة “ثمرات الفنون” البيروتية، ليأتي إلى منزله ويعبث بأوراقه ليمحي أثره بعد موته، فانتزع أصول كتابين تحت النشر هما “صحائف قريش” و”العظمة لله”، وأرسلهما إلى السلطان، وفي ذات الوقت أمر بالتحفظ على أوراقه ومخطوطاته في منزله بحلب.

عند تجديد قبر الكواكبي، بعد وفاته بسنوات، كتب على قبره شاعر النيل حافظ إبراهيم:

هنا رجل الدنيا.. هنا مهبط التقى

هنا خير مظلوم.. هنا خير كاتب

قفوا وأقرئوا أم الكتاب وسلموا عليه فهذا القبر قبر الكواكبي

جرافيك: عبد الله محمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock