منوعات

محمد عبده.. و«سورة العصر»

من بوارق الأستاذ الإمام، وما أكثر بوارقه التي تكاد تخطف الأبصار، وتنشر الضياء أمام من يطالع فكر حكيم الإسلام، لاسيما في تفسيره الخالد لعدد من أجزاء القرآن، نتعجب فيها من إحاطته بالتاريخ، وإمامته في اللغة، وجرأته على تجاوز ما قرره الأولون، دون خروج عن الأصول، أو إهمال للأدوات التي لا يفهم النص العربي إلا بها.

وكذلك جاء تفسيره لسورة العصر، محملا بالبوارق واللُمع، منبئ عن عقل يقظ جريء.. نشعر أننا في حاجة ماسة إلى الإفادة منه، ليس بالتبني الحرفي، فإن في ذلك مخالفة وتضاد مع ما كان ينادي به الأستاذ الإمام.. وإنما باستلهام ما فيه من روح متجددة، متحررة من القيود والأثقال، ممتلكة لأدواتها اللازمة لفهم أي كلام عربي بليغ.. فكأنما كان دور تفسير محمد عبده، أن يضعنا على طريق الحرية، مناديا أن انطلقوا.. تفكروا.. اقبلوا أو ردوا.
وللإمام مع سورة العصر وقفتان: مختصرة، ضمنها تفسيره الشهير لجزء عم، الذي وضعه أثناء مُقامه في باريس، ومطولة، جاءت خلال محاضرة ألقاها على كبار علماء الجزائر ومثقفيها عام 1903، وفيها فصّل ما أجمله في الاختصار.. ويبدو أن الإمام كان يرى أهمية كبيرة لتفسيره المطول حتى قال عنه: “فمن أراد بيانا أوسع، وتفصيلا أبدع، فليطلب ذلك التفسير، فإنه فيما أعلم غير مسبوق بنظير”.


ونختار من بوارقه في تفسيره لهذه السورة توقفه اللغوي عند لفظة “الإنسان” في قوله تعالى: “إن الإنسان لفي خسر”، فبالرغم من أن الألف واللام للاستغراق، “إلا أن الاستغراق بـ(ال) في كلام العرب ليس كالاستغراق بلفظ (كل) الذي يسور به المناطقة قضاياهم، وليست (ال) مساوية لكل التي تضاف إلى النكرة ويريد بها العربي تعميم الحكم في كل أفراد الجنس… ويوضح الإمام الفرق فيقول: الإنسان الذي تجري عليه أحكام الإنسانية، ويُحَدث عنه في مثل هذه الشؤون هو من بلغ سن الرشد عاقلا يميز بين الخير والشر، ولا يخطر بالبال في هذا المقام الصبيان غير المكلفين ولا المجانين.. ولو أتى بلفظ “كل إنسان” لشمل ذلك.. ولا تؤدي “ال” مؤدى “كل” إلا بقرينة.
ومن بوارقه المضيئة في تفسيره، ما يسوقه عند قوله تعالى “إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات”، فمن يستحق وصف الإيمان هو من أعمل عقله وتفكر واختار عن بينة ودليل، وليس من آمن بالميراث والتلقي دون وعي أو فهم.. وفي هذا يقول الإمام: “ليس الإيمان مجرد ما يسميه الناس اعتقادا وإن كان بمحض التقليد لا عمل لعقل ولا لوجدان فيه، فإن هذا الإيمان قد خسرت معه أمم كثيرة ممن صدقت بمرسلين صادقين وأنبياء هادين…”.
ويعتبر الإمام أن الإيمان الموروث لا يكفي لنجاة صاحبه، فيقول: “أما هذا الذي يتلقاه الناس من أفواه آبائهم فينشأ ابن المسلم لا يفهم معنى لما يعتقد أو لما يقول أبوه، وإنما ينطق كما ينطق، وتأخذه الحمية لما يحمى له، لا يفهم لذلك معنى ولا يجد لنفسه فيه بصيره، كما ينشأ ابن النصراني أو ابن اليهودي أو ابن المجوسي على مثل ذلك، فهو مما لا يعتد الله به، وإنما يعتد الله بتلك السكينة الروحية التي تشعر النفس بمهبطها إليها، وذلك العقد القلبي الذي يعرف القلب مكانه منه”.
ثم يبين المقصود بالصالحات، ويعرفها بأنها الأعمال التي عدت بالتفصيل في القرآن، وجماعها أن تكون نافعا لنفسك، ولأهلك، ولقومك، وللناس أجمعين، بعيدا من أن تضر أحدا إلا لكف ضرر أعظم منه، ومن تلك الأعمال الدعوة إلى الحق، والوصية بالصبر.

ويبلغ الإمام محمد عبده في تفسيره لسورة العصر ذروة شاهقة، لاسيما مع قوله تعالى “وتواصوا بالحق”، إذ رأى الشيخ الجليل أن الفهم الشائع لهذه العباره، هو أن يوصي كل إنسان أخاه بما يراه أنه الحق، وبما ثبت في نظره أنه الصواب، وقد رفض الإمام هذا الفهم، لأن الناس يختلفون في تقدير الأمور، وما أراه حقا قد تراه أنت باطلا، وما أعتبره صوابا قد تراه أنت عين الخطأ، فإذا أوصى كل منا الآخر بما يراه حقا أفضى هذا التواصي إلى التنازع والشقاق، ولا يمكن أن يكون هذا مراد الله.. وفي إشراق يأخذ بالألباب، يقرر الإمام أن التواصي بالحق هنا، معنا أن يوصي كل منا الآخر بالتزام طرق الوصول إلى الحق، وأن يلفت الأخ أخاه إلى ضرورة سلامة المنهج، وضبط النقاش، والاحتكام إلى أصول متفق عليها، وليس التواصي بما انتهى إليه كل واحد من رأي.
ويقرر في بيان واضح أن “الحق هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أو شريعة صحيحة، وهو ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان أو مشاهدة.. فشرط النجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق، ويلزموه أنفسهم، ويمكنوه من قلوبهم، ثم يحمل الناس بعضهم بعضا عليه، بأن يدعو كل صاحبه إلى الاعتقاد بالحقائق الثابتة التي لا ينازع فيها العقل، ولا يختلف فيها النقل، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات، التي لا قرار للنفوس عليها ولا دليل يهدي إليها.
ثم بيبين الإمام طريق الوصول إلى الحقائق الثابتة التي لا يمتري فيها صاحب عقل فيقول: “ولا يكون ذلك إلا بإعمال العقل، وإجادة النظر في الأكوان، حتى تستطيع النفس دفع ما يرد عليها من باطل الأوهام، وهذا إطلاق للعقل من كل قيد، مع اشتراط التدقيق في النظر، لا الذهاب مع الطيش، والانخداع للعادة والوهم”.
ويبين الإمام حقيقة الفهم الشائع بين الناس فيقول: “التواصي أن يوصي كل من الشخصين صاحبه بشيء، و”الحق” ما يقابل الباطل، وهو يكاد يكون معروف المعنى عند كل الناس، وإنما يخطئ أغلبهم في حمل هذا المعنى على جزئياته، فيأتي الواحد منهم إلى أشد الباطل بطلانا ويقول إنه الحق، فلو حُمل الحق هنا على ما يراه الموصي حقا لكان المعنى: وأوصى كل منهم صاحبه بما يعتقده حقا، وطالبه بالأخذ به، وربما كان الآخر لا يعتقد أن الحق مع موصيه، فيكون التواصي ضربا من التنازع، لأن كلا يدعوا الآخر إلى ما لا يرضاه، وهو التنازع بعينه، فلا يصح حمل المعنى عليه”.
ثم يبين الإمام فهمه للتواصي بالحق، بعدما بين خطأ الفهم السائد، فيقول: “وإنما الذي يصح أن يقصد هو أن يوصي كل واحد صاحبه بتحري الحق فيما يعتقد، بأن ينبهه إلى الحرص على البحث في الأدلة، والتلطف في النظر الموقوف على الحق الذي هو الواقع… فإذا رأى منه ضلة هداه بإقامة الدليل على ما هو الهدى، وإذا رأى منه تقصيرا في النظر نهض به إليه، وإذا وجد منه رعونة في الأخذ بظواهر الأمور دون النفوذ إلى بواطنها نصح له باستعمال الروية وإمعان الفكرة.
إن هذا التفسير المشرق لسورة العصر عموما، ولعبارة “وتواصوا بالحق” خصوصا، يهدي إلى نزع الشقاق في الجدال، ويصون العلاقات الإنسانية بين بني البشر، ويوفر كثيرا من الوقت والجهد، والأهم من كل هذا أنه يهدي إلى منهج في التعامل مع النصوص الدينية، يجمع بين التجديد وتحطيم قيود التقليد، مع إعمال قواعد اللغة والبيان العربي، وهو ما نفتقده بشدة في أيامنا الزاعقة التي نحياها.

هيثم أبو زيد

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock