الحدث

كيم جونغ أون.. الحقيقة والأسطورة (2 – 2)

منذ توليه القيادة أبدى كيم أمارات قسوة مفرطة وحالة شديدة من عدم التسامح إزاء مناوئيه في السلطة نسجت حوله الكثير من الأساطير.

فعلى عكس أبيه، كيم جونغ إيل، الذي لازم الجد المؤسس، كيم إل سونغ، قبل سنوات من توليه السلطة رسميا، لم يتول كيم الوصاية العامة (وفقا لنظام الحكم في كوريا) سوى سنة واحدة فقط، قبيل وفاة أبيه في ديسمبر 2011، أصبح خلالها جنرالا بأربع نجوم، ونائبا لرئيس اللجنة العسكرية المركزية للحزب.

وفور الوفاة، راح الشعب الكوري يتحسس طريقه نحو التعرف على الوريث الجديد الذي كان لا يزال في العقد الثاني من عمره، وهو يلقي نظرة الوداع على جثمان أبيه في مشهد مهيب. بدا كيم ضعيفا، وأشبه بطفل يتيم غير قادر على إخفاء عواطفه أو حتى كفكفة دموعه، والناس من حوله يتجاثون على الركب من فرط اليأس.

كان على كيم أن يسارع في تكوين فكرته الخاصة عن طبيعة دوره الجديد، وتوطيد أركان حكمه في وجه أقرب الأقربين. وتوقع كثير من المراقبين أن الحاكم الجديد سيكون مجرد دمية يمسك بخيوطها كهان الطبقة الحاكمة، وعلى رأسهم زوج عمته، جانغ سونغ تيك – الذي أعدمه كيم لاحقا – وعمته، كيم كيونغ هوي.

لكن كيم سرعان ما تكشف عن شخصية تحاكي شخصية الجد المؤسس. وإذا كان أبوه الذي تمرس على الحكم على مدى عشرين عاما قد تلبس ثوب الحداد لمدة ثلاث سنوات كاملة بعد موت كيم إل سونغ، فإن كيم لم يطل هذه الفترة، وبادر بالخروج أمام شعبه وإلقاء أول خطاباته بعد أربعة أشهر فقط من موت أبيه.

كانت البداية وحشية ومخضبة بالدماء، إذ دشن كيم حملات تطهير شملت عشرات المسئولين رفيعي المستوى، ولم يمض وقت طويل حتى قام بوضع زوج عمته قيد العزل السياسي، ثم لم يلبث أن قام بإعدامه. لم تكد حملات التطهير تتوقف ويهدأ أوارها حتى استؤنفت من جديد في عام 2015.

لكن الطريق أمام كيم للانفراد بالحكم كانت لا تزال تعترضها عقبة أخرى، هي عقبة أخيه الأكبر غير الشقيق، كيم جونغ نام، الذي تجاوزه الأب باختياره كيم خليفة له، والذي تؤكد الروايات أنه لم يلتق كيم من قبل.

لم يمض شهر واحد على اعتلاء كيم الحكم، حتى نشر صحفي ياباني رسائل بالبريد الإلكتروني كان قد تبادلها مع نام في منفاه بإقليم ماكو الذي تسيطر عليه الصين. في هذه الرسائل عبر نام عن عدم ثقته في قدرة أخيه الأصغر على النهوض بأعباء الحكم والوفاء بالتزاماته، وأكد أن كيم لن يتعدى أن يكون حاكما شكليا تسيره النخبة الحاكمة من وراء ستار. وصب نام عبر هذ الرسائل جام غضبه على احتكار أسرته للحكم عبر ثلاثة أجيال.

بعد نشر هذه الرسائل في كتاب بقي نام في منفاه بعيدا عن الأنظار تحت حماية مزعومة من قبل الحكومة الصينية، لكن.. في 13 فبراير 2017، وأثناء قيامه برحلة إلى خارج البلاد، التقطت عدسات كاميرات مطار كوالالمبور الدولي صورا لامرأتين تمسحان على وجهه بمادة، تبينت الشرطة الماليزية فيما بعد أنها غاز الأعصاب VX، وبالفعل لقي نام حتفه قبل أن تتمكن سلطات المطار من نقله إلى المستشفى.

نفت كوريا الشمالية أي علاقة لها بالحادث، بينما أكد جهاز الاستخبارات الكوري الجنوبي ضلوع الرئيس الشمالي كيم جونغ أون في قتل أخيه، وأنه وقع بأوامر مباشرة منه. وتمثل حاليا السيدتان أمام القضاء الماليزي يتهمة القتل.

مقتل كيم جونغ نام

 ويؤكد المراقبون أن هذه الجريمة كانت إشارة واضحة إلى أن كيم لا يلوي على شيء في توطيد دعائم سلطته، والقضاء، ليس فقط على الأصوات المعارضة لسياساته، وإنما أيضا على أي إمكانية لاستبداله بأي شخص آخر يمكن اعتباره صديقا للغرب.

لم يكن انتقاد كيم يختلف في كثير لدى دوائر الحكم الشمالية عن السخرية من ’مملكة هيرمت‘، التي اكتشفتها شركة Sony Pictures Entertainment الأمريكية لصناعة الأفلام بعد تدشينها فيلم The Interview (المقابلة)، الذي يحكي قصة صحافي حظي بالحصول على موافقة بمقابلة الرئيس الكوري الشمالي، ثم تم تكليفه من قبل السلطات الأمريكية باغتياله.

وبمجرد عرض الفيلم، اتهمت لجنة الدفاع الوطني الكورية الشمالية الرئيس الأمريكي آنذاك، باراك أوباما، بإجبار شركة Sony Pictures Entertainment على توزيع الفيلم على نطاق واسع وبصورة عشوائية، وابتزاز دور العرض من أجل عرض الفيلم.

 تريلر فيلم The Interview

لم يمض وقت طويل على عرض الفيلم حتى تعرض النظام الإلكتروني لشركة Sony لعملية قرصنة شاملة استباحت نظامها الحاسوبي بشكل كامل، وأدت إلى تعطيل أجهزة الكمبيوتر، وتجميد رسائل البريد الإلكتروني، وتسريب سكريبتات الأفلام وعدد من الملفات الداخلية المهمة وأجور العاملين، وكعادتها نفت دولة كوريا الشمالية أي علاقة لها بالواقعة.

كان واضحا من البداية أن كيم يسير على نهج جده المؤسس، حامل مشاعل النهضة والرخاء التي تمتعت بها كوريا الشمالية إبان خضوعها للرعاية السوفيتية. وقد حرص كيم الشاب على إبراز هذا التشابه مع الجد المؤسس حتى من خلال ’قصة شعره‘ وملابسه، وهو ما حظي بقبول واسع لدى أغلب قطاعات الشعب الكوري الشمالي؛ حيث ارتبطت فترة حكم الأب، كيم جونغ إيل، في الوجدان الشعبي بالمجاعة الكبرى التي حصدت أرواح قرابة 3 ملايين من الكوريين الشماليين.

وعلى عكس الأب، الذي اتسم بالانعزالية، خاصة في سنوات حكمه الأخيرة، والانسحاب الطوعي حتى من الظهور في المناسبات العامة، فإن كيم الابن يحرص بشدة على الظهور بانتظام أمام كاميرات التليفزيون أثناء تجواله بين عموم الناس، ومصافحته لهم بحرارة تصل حد العناق، وسؤال العمال بشغف عن طبيعة أعمالهم، والاهتمام العميق حتى بأدق تفاصيل حياتهم داخل جدران المصانع.

أسطورة كيم جونغ أون تحمل في طياتها آمال شعبه في تحقيق الحلم الذي طالما راود كلا من جده وأبيه، دون أن يدركاه، وهو تحويل كوريا الشمالية إلى قوة نووية ’شرعية‘. فالبرنامج الحلم الذي بدأ في عهد الجد، واستمر في عهد الأب، ينظر إليه الآن الوريث الشاب على أنه الضمانة الوحيدة لاستدامة حكمه.. فهل يستطيع كيم أن يبلغ ما لم يبلغه الأولون؟ وأي مورد سيورده البلاد إذا تحقق له ذلك؟ أسئلة لم يحن بعد وقت الإجابة عليها.

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock