رؤى

التصوف الشكلي .. ترقيع الدنيا بالدين

كما أن الحضارات المادية تتعرض لما تتعرض له من عوامل التعرية وما إلى ذلك، على مدى السنين، مما يؤثر فيها تأثيرا شديدا يصل إلى حد الطمس والمحو، فكذلك القيم الروحية يضاف إليها ويُحذَف منها ويتم وضعها في أطر جديدة وإخضاعها لتجارب خلاف الأولى؛ فيجري التغيير الذي قد يكون لصيقا بالأصل أو بعيدا عنه كل البعد، وقد يكون ممدوحا أو مذموما.

كان المرجو أن يتطور التصوف الإسلامي، بتقدم الوقت، مستلهما مفهوم الحداثة لينتج حالة رفيعة تصهر الدين والعلم والعقل والتكنولوجيا في بوتقة واحدة بلا أدنى تحايل ولا تلفيق (أحد مفاهيم الحداثة أنها استخدام العلم والعقل والتكنولوجيا في التعامل مع الواقع) لكن بقي طريق التصوف، باستمرار، واضحا وضوح “الوَجْد” الذي يبدأ به وينتهي إليه، مرصوفا بجملة التَّقلُّبات الزمنية المتتابعة. الوجد (في الفلسفة والتصوف) كما تقول المعاجم: ما يصادف القلب ويَرِد عليه دون تكلُّف وتصنُّع من فزع أو غمٍّ أو رؤية معنىً من أحوال الآخرة، أو هو لهب يتأجَّج من شهودِ عارضِ القلق. وللوجد مراتب هي: التواجد، والوجد، والوجود وهو المرتبة العليا والأخيرة.

باختصار: ظل تعويل العاشق الصوفي على الوجدان وحده (بتذبذبات أحواله طبعا بحكم دخول الأوقات الجديدة عليه).. تؤكد ذلك القاعدة الشهيرة التي تقوم عليها المعرفة الصوفية كلها: “من ذاق عرف”.

من البداية اختلف الناس في تعريف التصوف بل في تعيين الزمن الذي ظهرت فيه بواكيره؛ فمنهم من رده إلى زمن النبي الكريم (ص) نفسه، قائلا إن أصل التصوف هم “أهل الصُّفَّة” الذين أشار إليهم القرآن العظيم “وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا”.. وهم، أيا من يكونون، صالحون رفيعو القدر أطهار حتى أن ذا المنزلة الأسمى (ص) جاءه الأمر من السماء بتوقيرهم والتزام ساحتهم.

عن عبد الرحمن بن سهل بن حُنيف قال: نـزلت الآية على رسول الله (ص)، وهو في بعض أبياته: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) فخرج يلتمسهم، فوجد قومًا يذكرون الله، منهم ثائر الرأس، وجافي الجلد، وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال: “الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم”.

ثائر الرأس هو الأشعث، وجافي الجلد أي خشنه غليظه مما يدل على فقدان النعمة، وذو الثوب الواحد كناية عن توخِّي الزهد. وكلها صفات شكلية للمتصوفة ثبتت على مر الأزمنة (بتنويعات وافرة تعبِّر عن التفاوت بين أعوام مضت وأخرى أتت)، وقد يقوِّي هذا احتمال إرجاع أصل التصوف إلى السادة المذكورين بالآية الكريمة.

ومنهم من قال إن التصوف، كإدراك خاصٍّ يغاير السائد، بدا أولا في مقولات الصحابة، كمقولة الجليل “حذيفة بن اليمان”: في الوقت الذي كان الناس يسألون فيه رسول الله عن الخير كنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.

وأرجعوا بزوغه أيضا إلى العصر العباسي الثاني؛ فقالوا: كان أول ظهور للتصوف في الفترة العباسية الثانية كمقاومة سلبية لانتشار الرفاهية التي فشت فيها والبذخ والإسراف اللَّذَيْن جلَّلاها.

أما عن تعريفه، فالشعر ما أكثره والمقولات المرسلة تفوق الحصر، وتعريفات التصوف بعضها يحتاج إلى تعريفات؛ كمثل القول الذائع: الشريعة ما ورد به التكليف والحقيقة ما حصل به التعريف، والشريعة مقيِّدةٌ للحقيقة، والحقيقة مؤيِّدةٌ للشريعة. ومشهور أن الحقيقة لقب من ألقاب التصوف الحميمة، وأهلها أهله.

من الشعر قول أبي الفتح البستي:

تنازع الناس في الصُّوفي واختلفوا —- قِدَما وظنُّوه مشتقَّا من الصُّوفِ

ولست أمنح هذا الاسم غير فتىً —- صافى فصُوفِي حتَّى سُمِّي الصُّوفي.

وقول آخر:

ليس التَّصوُّف لبس الصُّوف ترقعه —– ولا بكاؤك إن غنَّى المغنُّونا

ولا صياحٌ ولا رقصٌ ولا طربٌ —– ولا اختباط كأنْ قد صرت مجنونا

بل التَّصوُّف أن تحيا بلا كدرٍ —– وتتبع الحقَّ والقرآن والدِّينا

وأن تُرى خاشعا لله مكتئبا —– على ذنوبك طول الدَّهر محزونـا

وهكذا آلاف الأبيات المتغايرة التي تحاول تحديد معنى التصوف، وتتعدد صيغها وأساليبها، وقد تحمل أسماء أصحابها وقد لا تحملها، بخلاف القصائد العصماء التي تدور في فلك “الحب الإلهي” أو “مديح الذات المحمدية” مما يُنسَب كله إلى التصوف بإشراق موضوعاته.

شيئا فشيئا بقي من التصوف شكله، بإضافات بديهية جرت مع اختلاف الظروف والمعطيات، وامَّحى أو كاد معناه الباطني الذي هو صفاء النفوس من كل شائبة تشوِّش معراج الوصل بالملأ الأعلى، جرى ذلك حتى قال العارف الصوفي المتأخر النابه (كمن يعلن قرب نهاية صوفية الجوهر): ذهبت حقائق الأشياء وبقيت أسماؤها؛ فالحقائق مفقودة والأسماء موجودة.

راق المتصوفة المعاصرون الشكل؛ فأخذوا من حنايا التاريخ صورا تشير، بقوة، إلى صلتهم بالتصوف، كالمظهر المتقشِّف والسُّبَح الكثيفة والتَّعلُّق بالمقامات وتقديس المشايخ وحصول العهد والنصيب من الأوراد..، وأخذ الشعراء والأدباء ألفاظا كالشغف والتلف والهيام والصعود والوصول والاتحاد والحلول والسُّكْر والحضور والغياب والشهود..، رقَّشُوا بها أعمالهم الإبداعية، وكم توهَّم نقَّاد كثيرون أن ذلك هو التصوف وبنوا نقدهم للشعر على الدراية بالعلم الصادق لا اليراع الكاذب.

خفَّ اليقين فبرزت القشرة على حساب الثمرة، وغلبت سهولةُ تقليد المظهر أهميَّة تجديد المخبر، وعامل الناس التقدم معاملة استهلاكية لا إنتاجية، ومن الأساس كانت طغت الحاجات الدنيوية على الأبعاد الأخروية، لكن البشر قرروا ترقيع الدنيا بالدين من باب منح الهويات امتيازات روحية براقة خادعة؛ ففي العمق خسروهما معا كقول الشاعر:

نرقِّع دنيانا بتمزيق ديننا —- فلا ديننا يبقى ولا ما نرقِّع.

abdelraheemtaya2081@yahoo.com

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock