ثقافة

محفوظ وقطب.. صحبة الأدب وغربة الأيديولوجيا

لن يكون السؤال الطبيعي: «لماذا افترقا؟»، ذلك أن التساؤل المنطقي هو: «كيف التقيا؟».. ففي حين كان نجيب محفوظ يتلمس خطواته الأولى على طريق النشر، كان سيد قطب آنذاك نجما كبيرا، وصاحب معارك أدبية ذائعة الصيت، وكانت مقالاته اللافتة تملأ الصحف والمجلات، وهو الذي كتب أول مقال نقدي مهم عن نجيب محفوظ، وتحديدا عن رواية «كفاح طيبة».

 استهل قطب مقاله المنشور في 25 سبتمبر 1944 بقوله: «أحاول أن أتحفظ في الثناء على هذه القصة، فتغلبني حماسة قاهرة لها، وفرح جارف بها، هذا هو الحق أطالع به القارئ من أول سطر، لأستعين بكشفه عن رد جماح هذه الحماسة، والعودة إلى هدوء الناقد واتزانه»، ولم يستطع أن يتخلص خلال المقال من هذه الحماسة للكاتب والرواية حتى قال: «لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة «كفاح طيبة» في يد كل فتى وكل فتاة، ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان، ولأقمت لصاحبها، الذي لا أعرفه، حفلة من حفلات التكريم التي لا عدد لها في مصر، للمستحقين وغير المستحقين».

مقال سيد قطب الثاني عن أدب نجيب محفوظ كتبه عن رواية «خان الخليلي»، وفيه أيضا تبدت حماسة الناقد المعروف للأديب الشاب، مبشرا بموهبته الروائية الفذة: «هذه القصة الثالثة هي التي تستحق أن تفرد لها صفحة في سجل الأدب المصري الحديث، فهي منتزعة من صميم البيئة المصرية، في العصر الحاضر، وهي ترسم في صدق ودقة، وفي بساطة وعمق، صورة حية لفترة من فترات التاريخ المعاصر، فترة الحرب الأخيرة، بغاراتها ومخاوفها، وبأفكارها وملابساتها».

ويعقد مقارنة بينها وبين «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، ولم يخش قطب أن يعلِّي من شأن «خان الخليلي» على «عودة الروح»، رغم أن الحكيم آنذاك كان من أساطين وأساطير الأدب في مصر، فيكتب: «من الحق أن أقرر أن الملامح المصرية الخالصة في «خان الخليلي» أوضح وأقوى، ففي «عودة الروح» ظلال فرنسية شتى، وألمع ما في عودة الروح هو الالتماعات الذهنية والقضايا الفكرية بجانب استعراضاتها الواقعية. أما خان الخليلي فأفضل ما فيها بساطة الحياة، وواقعية العرض، ودقة التحليل».

وحين صدرت رواية «القاهرة الجديدة»، كتب سيد قطب مقاله الثالث في مجلة «الرسالة» يوم 30 ديسمبر عام 1946، وجاء غاضبا على الحياة النقدية في مصر، التي تغفل كاتبا ومبدعا شابا مثل نجيب محفوظ، «الذي لا يرتمي في حضن أحد، ولا يتزلف لناقد، ولا يتقرب من مسؤول، ولكنه يكتب ويبدع في صمت ودأب». ثم يصل إلى ذروة الثناء عندما يقول: “كان على النقد اليقظ -لولا غفلة النقد في مصر- أن يكشف أن أعمال نجيب محفوظ هي نقطة البدء الحقيقية في إبداع رواية قصصية عربية أصيلة، فلأول مرة يبدو الطعم المحلي والعطر القومي في عمل فني له صفة إنسانية”.

رابع مقالات سيد قطب عن نجيب محفوظ جاء عن رواية “زقاق المدق” ونشره في مجلة الرسالة مارس عام 1948، وكرّر فيه الإشادة بفن نجيب محفوظ وأدبه، قال فيه: “نملك اليوم أن نقول: إن عندنا قصة طويلة، أي رواية، كما نملك أن نقول إننا نساهم في تزويد المائدة العالمية في هذا الفن بلون خاص، فيه الطابع الإنساني العام، ولكن تفوح منه النكهة المحلية، وهذا ما كان ينقصنا إلى ما قبل أعوام”.

كتب نجيب محفوظ عن سيد قطب، ثلاث مرات، الأولى عندما صدر كتاب قطب «التصوير الفني في القرآن»: «ها أنت تبين لنا في عصر الموسيقى والتصوير والقصة بقوة وإلهام، أن كتابنا المحبوب هو الموسيقى والتصوير والقصة، في أسمى ما ترقى إليه من الوحي والإبداع»، والثانية عندما نشر قطب «أشواك»، كتب عنها محفوظ مقالا في جريدة «الوادي»، يثبت أن رواية «أشواك» هي سيرة ذاتية لقصة حب سيد قطب نفسه.

كان آخر لقاء جمعهما في بيت قطب بحلوان، رغم معرفة محفوظ بخطورة هذه الزيارة وبما يمكن أن تسببه من متاعب أمنية، يقول محفوظ: «ذهبت لزيارته في عام 1964 بصحبة عبد الحميد جودة السحار عقب خروجه من السجن بعفو صحي، في تلك الزيارة تحدثنا في الأدب ومشاكله، ثم تطرق الحديث إلى الدين والمرأة والحياة، وكانت المرة الأولى التي ألمس فيها بعمق مدى التغير الكبير الذي طرأ على شخصية سيد قطب وأفكاره، رأيت أمامي إنسانا آخر، حاد الفكر، متطرف الرأي، يرى أن المجتمع عاد إلى «الجاهلية الأولى»، وأنه مجتمع كافر لا بد من تقويمه بتطبيق شرع الله، انطلاقا من فكرة «الحاكمية»، لا حكم إلا لله. وسمعت منه آراءه، من دون الدخول معه في جدل أو نقاش، فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل إلى تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب؟».

يضيف محفوظ، «في تلك الزيارة كانت مع قطب مجموعة من أصحاب اللحى، لم يكن قطب يشبه صديقي القديم الذي عرفته فيه، وأردت أن أكسر حدة الصمت الثقيل، فقلت دعابة عابرة، وافترضت أن أساريرهم ستنفرج وسيضحكون، ولكنهم نظروا إليَّ شزرا، ولم يضحك أحد حتى سيد نفسه، وعندها غادرت البيت صامتا شعرت بمدى التحول الذي طرأ عليه».

بعدها انقطعت علاقة محفوظ مع سيد قطب، حتى سمع بخبر مشاركته في مؤامرة قلب نظام الحكم، وصدور حكم بالإعدام عليه، ودخل قطب في سجل شخصيات محفوظ الروائية فكتب عنه في “المرايا”: «إنه اليوم لأسطورة، وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير، ورغم أنني لم ألق منه إلا معاملة كريمة أخوية فإنني لم أرتح لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادتين، وكان في الثلاثين من عمره”، ويسترسل محفوظ في سرد حياة عبد الوهاب إسماعيل (سيد قطب)، وعلاقته مع ثورة يوليو، وانضمامه إلى «الإخوان المسلمين»، وتغيره وتطور نظرته التي وسمت كل المجتمع بالجاهلية.

بقيت لمحفوظ أمنية لم تتحقق وردت في معرض ما كتبه عن قطب في «المرايا»، حين يسأله عن المستقبل، فرد عليه: هل لديك اقتراح؟ فقال: لديَّ اقتراح لكني أخشى أن يكون جاهليا، هو أن تعود إلى النقد الأدبي. وبعد أشهر وفي 30 أغسطس 1966، أطلق الرصاص على عبد الوهاب إسماعيل، أثناء مقاومته الشرطة، التي ذهبت للقبض عليه لمشاركته في مؤامرة للإخوان المسلمين، فمات».

كان هذا ما جاء في «المرايا» أما في الحقيقة فقد مات سيد قطب في اليوم نفسه وبالتهمة نفسها، ونفذ حكم الإعدام شنقا فيه، وفي اليوم نفسِهِ، من سنة 2006 رحل نجيب محفوظ عن الدنيا، ولعلها من قبيل المصادفات التي تقدرها المقادير، بما لا يمكن فهمه وتفسيره على المقاييس البشرية.

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock