رؤى

الإمام حسن العطار مجدد علوم الدين والدنيا ( 2-2)

يجادل المستشرق الأمريكي بيتر جران في كتابه “الجذور الإسلامية للرأسمالية”  1760-1840 بأن هناك بواكير رأسمالية محلية نمت في بلدان غير المراكز الاستعمارية الكبرى التي تأسست فيها الرأسمالية الغربية، ويطلق علي هذه المناطق الأطراف، ومنها مصر، مستلهمة أسس إسلامية تعتمد علي منطق المرابحة والريع والمزارعة والتبادل التجاري، وذلك في نهاية القرن ا لثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر.

ارتبطت بذور تلك الرأسمالية، ومن ثم عملية التحديث، بتطور الأوضاع المحلية واتجاه القوي الاجتماعية نحو الانفتاح على المزيد من فهم أفضل للعالم وللمحيط الذي كانت تتحرك فيه في نطاق حر وملهم. ومن بين تلك القوي الاجتماعية التي قادت عملية التحول الرأسمالي المحلي، ومن ثم الدخول إلي عالم الحداثة وطرق أبوابها، الطرق الصوفية وعلماء الأزهر، والانتقال من عالم الطوائف والحرف القديم الذي كانت المهنة المغلقة معياره إلى عالم الثروة والدخول كقوة تجارية تتفاعل وتتواصل مع القوى العالمية القادمة للمنطقة. من ثم، فإن الحملة الفرنسية ليست هي من جاء لمصر بالحداثة والرأسمالية، وإنما قواها الداخلية الحية واستجابتها للتحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر الذي جاء بمحمد علي إلي السلطة في البلاد.

يعتبر “بيتر جران” دراسته المهمة لشخصية الإمام حسن العطار تجسيدا لتلك التحولات، حيث كان الرجل هو من حمل لواء التجديد وبذر فسائل الحداثة مع أصدقائه من جيله وتلامذته الذين جاءوا من بعده، ومن قبله مشايخه الذين كانوا قد وضعوا الأساس لهذه الحداثة وذلك الانتقال إلي عالم جديد عبر تأسيسهم لمدارس فكرية ذات طابع تجديدي وتنويري،  عبر الجمع بين علوم الدين والدنيا بالمعنى الواسع والاهتمام بتاريخ الحوليات وكتابات ابن خلدون حول العمران وصعود الأمم وهبوطها، بعيدا عن الاستغراق القديم في سرد قصة نصر المسلمين في بدر باعتبارها تعبيرا عن قدر الله الذي لا يُدفع للفئة المؤمنة لكونها كذلك وليس لتحقيق شروط النصر التي يجب توافرها، وإلا فإن سنن الله الجارية تقع علي من فرط في امتلاك أسبابها.

شاه ولي الله الدهلوي الهندي في كتابه المهم “حجة الله البالغة” وكتبه الأخرى عن الاجتهاد والتقليد وكيفية التعامل مع الأحاديث  والنصوص التي تأثر بها من بعد حسن العطار، وضع قواعد صارمة في تدقيق الأحاديث وقبولها حتي لو كانت من الصحابة، وتعامل مع الصحابة وفق قواعد المنهج العلمي وأسس العلم وليس لكونهم بذواتهم صحابة للنبي.

 وكما يشير “بيتر جران” فإن علم الحديث الذي كان مسيطرا في تلك الفترة على طبقات العلماء في الأزهر والطرق الصوفية بدأ يتراجع لصالح علم الفقه، حيث يعبر الفقه عن جدال تأويلي أوسع من مجرد الالتزام بنصوص الحديث الذي يقود إلي طابع ظاهري جامد أو ربما طابع حرفي غير قادر على مواجهة الأسئلة الجديدة، وهنا يوسع الفقه أبواب التأويل والنظر عبر القياس والعلل.  ثم يقود العطار نفسه الانتقال من الفقه إلى علم الكلام حيث اهتم بقضايا المنطق والحكمة ذات الطابع الفلسفي، كما اهتم بشكل خاص بأصول الفقه واستخدم أدواته، فيما يتعلق بالقضايا الجديدة.

وللعطار أكثر من رسالة في علم الكلام، الذي هو عنوان لمظلة فكرية جديدة وحديثة يناقش فيها مستخدما أدواته التي تمنحه حرية أكبر في الجدال والنقاش والحوار بعيدا عن قيود علم الحديث، بيد أن الأهم فيما طرحه العطار أنه استخدم ما نطلق عليه اليوم مناهج البحث واعتبرها أداة مهمة في الفهم والكتابة الجديدة،  وهو ما كان يُطلق عليه أدب البحث، حيث أسس العطار لما يمكن أن نصفه بالتخصص العلمي المستقل لكل علم من العلوم، ولا ريب أن علم الكلام والجدال سوف يؤسس من بعد للتكيف مع عصر يتغير بسرعة ويحتاج لاجتهاد يتوازى مع تلك التغيرات.

وعُين العطار محررا  لمجلة الوقائع المصرية في نسختها العربية عام 1828 م، ووضع، مستندا إلي تأسيسه لنظام بيان وعلوم لغة جديدة ونظم للنحو الواضح، الأسس التي التزمها محررو الوقائع في كتابة قضاياهم، والتي كانت ذات صلة بالجدل الدائر في تركيا ومصر مطلع القرن التاسع عشر حول العلم الطبيعي والحرية وغيرها من القضايا.

 جران أخذ من شخصية العطار عنوانا للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي شهدتها مصر منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتي وفاة الرجل وهو شيخ للأزهر عام 1835م. نحن أمام عالم موسوعي تكشف عنه آثاره الباقية في مكتبات القاهرة ودمشق واسطنبول حتى اليوم، كما تكشف تبحره في علوم الدين والدنيا خاصة الطب الذي كان علما كبيرا فيه، وتكشف عن نزعته النقدية والتجديدية التي تبدت في علوم اللغة والبيان والشعر والأدب والتأسيس لبيان ونحو جديد. كما أن للرجل في الفقه والتفسير والحديث  والشرح والتأويل وعلوم الشريعة والتاريخ والمنطق والحكمة قدمه الراسخة وباعه الملهم لمدرسة الإصلاح والتجديد التي جاءت بعده.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock