منوعات

فرانكشتاين.. رؤى أكثر إنسانية

تحل هذا العام ذكرى مرور مائتي عام على نشر رواية Frankenstein  للروائية الإنجليزية، ماري شيلي (1818). وبرغم الزمن، لا يزال الوحش فرانكشتاين يلهم الكثير من أعمال أدب الخيال العلمي، والرواية القوطية (التي تسيطر عليها أجواء الرعب والغموض والإثارة)، إضافة إلى الكثير من الإبداعات السينمائية والتليفزيونية والمسرحية.

تدور أحداث الرواية حول الباحث الفذ في علوم الطب والأحياء، فيكتور فرانكشتاين، الذي يدرس في جامعة ركنسبورك الألمانية، ويكتشف طريقة يستطيع من خلالها بعث الحياة في المادة. على إثر ذلك يبدأ فرانكشتاين عملية تخليق كائن عملاق، لكنه يرتكب خطأ فادحا يجعل مخلوقه مسخا قبيحا. في هذه اللحظة يسارع فرانكشتاين بالهروب من المختبر، وعندما يعود يجد مخلوقه قد خرج ليعيث في الأرض.

تذكر شيلي في مقدمة طبعة عام 1831 أنها أثناء قضاء إجازة صيف عام 1816 على شاطئ بحيرة جنيف في سويسرا، استمعت إلى مناقشة علمية في وقت متأخر من الليل بين الطبيب والشاعر الإنجليزي، بيرسي بيش شيلي – الذي تزوجت منه بعد ذلك بشهور قليلة – والشاعر الإنجليزي، جورج جوردون بايرون “لورد بايرون” حول الجلفانية، وهي عملية تحفيز العضلات عن طريق الصدمات الكهربائية. كانت هذه القضية العلمية مثارا لجدل عميق آنذاك، وألهمت الأدباء الكثير من المفاهيم الخيالية بشأن الحدود الفاصلة بين الحياة والموت.

في أعقاب تلك المناقشة، نامت شيلي من ليلتها؛ فتراءى لها كابوس كان بمثابة البذرة الأولى التي أفضت إلى هذا العمل. وبوجه عام، كان هذا العام مرحلة فاصلة في تاريخ الرواية القوطية، حيث اجتاحت العالم اضطرابات مناخية عنيفة بسبب انفجار بركان مدمر في جبل تامبورا في إندونيسيا عام 1815، أدى إلى انتشار سحب رماد بركاني، وانخفاض درجات الحرارة بصورة حادة في جميع أنحاء العالم، حتى عُرف هذا العام بأنه “عام بلا صيف”.

في ظل هذه الأجواء، اقترح الشاعر الإنجليزي، لورد بايرون أن يتبارى الروائيون في إبداع روايات قوطية. وقد تمخضت هذه الدعوة عن أهم روايتين في هذا النوع الأدبي، وهما رواية Frankenstein عام  (1818)، وقصة The Vampyre في عام (1819) للكاتب والطبيب الإنجليزي، جون وليام بوليدوري، التي أصبحت بعد ذلك مصدر إلهام لرواية دراكولا Dracula (1897) للروائي الأيرلندي، برام ستوكر.

لم يمض وقت طويل حتى تحول الوحش فرانكشتاين من بين دفتي كتاب شيلي إلى خشبة المسرح وشاشات السينما. وتعد رواية Frankenstein ثاني أكثر رواية بعد رواية Dracula  من حيث عدد مرات إنتاجها سينمائيا. وقد أضفت الأعمال المختلفة تصورات متنوعة على الشخصية، وطرحت قضايا متباينة وعميقة.

سجل عملاق شيلي أول ظهور له على خشبة المسرح في عام 1823 من خلال مسرحية حملت اسم The Fate of Frankenstein. وفي عام 1910، أنتجت استوديوهات إديسون (شركة توماس إديسون للإنتاج السينمائي) فيلما قصيرا عن الموضوع نفسه، عرضت من خلاله لثنائية العملاق وخالقه، وأبرزت التأثيرات السينمائية الخاصة المصيرين المتلازمين لفيكتور، الذي جسده أوجستس فيليبس، ونظيره البشع، الذي قام بدوره تشارلز ستانتون أوجل.

وفي عام 1931، أبرز الفيلم الذي أخرجه جيمس ويل عام 1931، وجسد فيه الممثل الإنجليزي، بوريس كارلوف، دور الوحش معاناة العملاق. في هذا السياق، نجح فنان الماكياج، جاك بيرس، في إثارة تعاطفنا مع هذا المخلوق عن طريق إضفاء مزيد من البراءة على الشخصية، والتقليل من بشاعتها، وذلك عبر استخدام حيل عديدة مثل تخضيب البشرة باللون الأخضر، ووضع براغي في العنق.

وفي عام 1957، طورت استوديوهات “Hammer” فكرة وقوع الإنسان ضحية لمقصلة التقدم العلمي على نحو أعمق، وذلك من خلال فيلم لعنة فرانكشتاين The Curse of Frankenstein، الذي جسد فيه الممثل الإنجليزي، كريستوفر لي، دور هذا الكائن الأسطوري.

في هذا العمل أبرز مخرج الفيلم عمليات ’اللحام‘ بين أجزاء جسد  الشخصية بصورة تعكس ما تعانيه من تمزق وانهيار على المستوى النفسي. وبدا جليا أن براعة العالم في ’تجميع‘ أجزاء متفرقة، ومختارة بعناية لتخليق كائن أسطوري ينطوي على ملكات عديدة قد باءت بفشل ذريع. فعقل الأستاذ الجامعي المرموق، ويدا الفنان المبدع، وجسد المجرم الذي نُفذ فيه حكم الإعدام غير قابلين للعودة إلى الحياة بمعناها الواسع، حتى لو ساعدت الصدمات الكهربائية على إنتاج ردود أفعال كيميائية لتحريك العضلات؛ لإن هذا من شأنه أن يخلق حركة ميكانيكية لا تستوعب المعاني الكامنة في الحياة والإبداع والانطلاق.

وفي عام 1982، حلق المخرج، ريدلي سكوت، بالفكرة في آفاق أخرى، إذ عرض فيلمه Blade Runner لموضوع ’نار بروميثيوس‘ (تحكي الميثولوجيا اليونانية أن بروميثيوس سرق النار – التي تعني النور والمعرفة والدفء – من الآلهة الأوليمبية ومنحها للبشر)؛ وذلك من خلال المقارنة بين قدرة العملاق على التعلم والرؤية والحس من جانب، والطموح الأعمى والتجرد من المشاعر اللذان يهيمنان على طبيعة فيكتور فرانكشتاين من جانب آخر.

وفي فيلم Frankenstein (1994) يعيد المخرج الأيرلندي، كينيث براناه، للوحش سماته الإنسانية والجسدية ليعرض للإزدواجية الخارقة بين شخصية الوحش التي جسدها الممثل الأمريكي، روبرت دي نيرو، وشخصية فيكتور فرانكشتاين، التي جسدها براناه نفسه.

تريلر فيلم Frankenstein (1994):

 وبرغم تعدد النسخ وتباين المعالجات يبقى فرانكشتاين تحذيرا صارخا من مغبة الجموح والشطط البشري.

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الدراسة النقدية لقصة فرانكنشتاين هي في حقيقتها دراسة نقدية تاريخية تجاوزت النقد الأدبي إلى بحث في المعالجات الدرامية باللغة السينمائية للنص الأدبي وتطور مفهوم الفكرة الفلسفية من شخصية فرانكنشتاين المحلقة بشكل علمي بمنأى عن المشاعر الإنسانية التي سرعان ما تظهر في أفق العمل الدرامي ثم تصبح ركيزة له لتحيي صراعات الإنسان وماديته ومثله وصراع بين العلم وأخلاقياته وصراع بين الماضي والمستقبل أي صراع مفاهيم الأجيال وقد طاف بِنَا الكاتب أحمد بركات من خلال تسلسل زمني يربط بين مفهوم الرواية والمعالجة التي تناسبت مع ترجمتها السينمائية برشاقة بالغة محترما كل تصور وكل فترة زمنية فله كل التحية ونرجو أن نقرأ له المزيد من هذه الدراسات الجادة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock