ثقافة

كيف صنع الأدب تاريخ العالم؟ (1 – 2)

يرى أفلاطون أن الفنون لا تمدنا فقط بالسعادة لكنها مفيدة أيضا في صياغة الدساتير وتشكيل ملامح الحياة البشرية، ويؤكد أرسطو أن تأثير الشعر لا يقف عند مجرد استثارة استجابات عاطفية قوية في دواخلنا، لكنه أيضا يلهمنا الكثير من القيم والأفكار التي تساعدنا على الارتقاء بأنفسنا.

لذا، لعب الأدب – بدءا من الملاحم الكلاسيكية القديمة إلى الروايات الحديثة – دورا محوريا في تغيير مجرى التاريخ، وكان له أعمق الأثر على مر العصور في بناء الحضارات وإعادة صياغة وتوجيه النفس البشرية.

تلك هي الفرضية الأساسية التي يطرحها مارتن بوكنر، أستاذ الأدب الإنجليزي والأدب المقارن في جامعة هارفارد، عبر كتابه The Written World: The Power of Stories to Shape People, History, Civilization (العالم المكتوب: قدرة القصص على تشكيل الشعوب والتاريخ والحضارات).

يجوب بنا الكاتب عبر أكثر من 400 صفحة دروب التاريخ المتشعبة ليسلط الضوء على الدور المحوري الذي لعبه الأدب عبر فنونه المختلفة في رسم معالم حركة التاريخ وبناء الحضارات وتشكيل الهويات.

يبدأ الكتاب – الذي صدر بداية هذا العام عن دار نشر “راندوم هاوس” – من عوالم ما قبل الميلاد، حيث كانت أرجاء المملكة الصغيرة القابعة في شمال اليونان تموج بالحراك تأهبا لاعتلاء الطفل الصغير سدة عرشها.

كان الإسكندر لا يزال حدثا في مقتبل عمره، وكانت مقدونيا تخوض غمار حروب لم يخمد وطيسها، ولم تتوقف رحاها على مدى سنوات طوال ضد العديد من الممالك المحيطة، وعلى رأسها إمبراطورية فارس. إزاء ذلك، وجه الأب طفله الصغير في وقت مبكر إلى تعلم فنون القتال وقيادة الجيوش وإدارة المعارك.

بعد مقتل والده، فاق أداء الشاب الصغير كل التوقعات. لم تتوقف نجاحاته فقط عند تأمين حدود مملكته الصغيرة، وإنما تمكن من سحق الإمبراطورية الفارسية، وفتح أجزاء كبيرة من الممالك الممتدة من مصر إلى شمال الهند.

كان الإسكندر يعتمد على سلاح لم يعهده غيره من ملوك الإمبراطوريات وأمراء الحروب، وهو نسخة مكتوبة من قصيدة الإلياذة، فقد تعلم القائد المظفر القراءة والكتابة من خلال دراسة هذه الملحمة على يد معلمه الأغر، أرسطو الفيلسوف، بشغف كبير.

ولما انطلقت مسيرة فتوحاته، تحولت القصيدة – التي كانت تحكي قصة رحلة يونانية قديمة إلى بلاد آسيا الصغرى – إلى خارطة طريق وبرنامج عمل امتثل له القائد حق الامتثال (وهو ما جعله يتوقف عند طروادة، برغم عدم وجود أي جدوى عسكرية لهذا الموقع). ووفقا لبوكنر، لم يُعرف عن الإسكندر طوال مسيرة فتوحاته أنه آوى يوما إلى مضجعه، دون أن تكون نسخة الإلياذة آخر ما تطلع عليه عيناه.

يخلص بوكنر إلى أن قيمة الإلياذة “لا تقف فقط عند حدود المجد الأدبي، أو أرفف المكتبات، أو حتى حول النيران في جلسات السمر في اليونان القديمة، وإنما تتجاوز ذلك كله إلى آفاق الاضطلاع  بدور رائد في بناء إمبراطورية مجيدة وتشكيل ثقافة إنسانية تبلورت عبر التاريخ”.

في السياق ذاته، يؤكد هوارد كاناتيلا، استاذ الأدب المقارن في جامعة برنس جورج، في كندا، أن “هوميروس حدد – بين أشياء أخرى – في ملحمته ملامح الفكر في الثقافة اليونانية القديمة، وبينت قصته كيف يجب على المجتمع أن يحيا في ظل خيارات أخلاقية على رأسها فضيلة الشجاعة؛ وهو ما ترك آثارا عميقة على عدد من شعوب المنطقة عبر التاريخ”.

(https://journals.sfu.ca/pie/index.php/pie/article/view/73/21)

ويلفت بوكنر إلى أن كلا من الإلياذة والإسكندر قد أثرا وأثريا بعضهما البعض بشكل متبادل. فقد استلهم الإسكندر من الملحمة الكثير مما ترك آثارا واضحة على فكره وشخصه وساعده على بناء مجده، لكنه سدد الدَين لهوميروس بأن جعل اليونانية لغة مشتركة لجزء كبير من مملكته، وهو ما وضع هذه القصيدة القديمة على أول الطريق صوب العالمية.

ولم يقف الأمر عند حدود الإسكندر وحده، فقد شيد خلفاؤه المكتبات العامة في الأسكندرية وبرجاموم وغيرهما ليتم فيها حفظ الملحمة عبر الأجيال.

في الفصل الثاني من فصول الكتاب الستة عشر، ينتقل بوكنر إلى “ملحمة جلجامش” في بلاد ما بين الرافدين (أو كما يحلو للبعض أن يطلق عليها “الإلياذة العراقية” أو “أوديسة العراق القديم”) كنموذج آخر من الأعمال الكلاسيكية القديمة التي شكلت نقاطا مرجعية مشتركة لعدد من الثقافات، وأخبرت قراءها عن مبدئهم الأصيل وهوياتهم الحقيقية.

كُتبت هذه الملحمة باللغة السومرية، وعُثر عليها في مكتبة ملك أشور، أشور بانيبال، مسجلة على اثنى عشر لوحا. ورغم أن الترجمة غالبا ما تقف عائقا في نقل الخصوصيات اللغوية والقومية، إلا أن الآفاق الإنسانية العامة التي تمثل قاسما مشتركا بين الحضارات وتشكل المادة الأساس لهذه الملحمة قد ساعدتها بقوة على تجاوز هذا العائق.

لم يقف تأثير هذه الملحمة عند حدود الأدب، وإنما امتد إلى الدين، حيث استلهم منها سفر التكوين قصة الطوفان، كما ناقشت العديد من القضايا الإنسانية المحورية مثل الصداقة والوفاء والنوستالجيا، فضلا عن قضايا الموت والخلود.

بوكنر يتحدث إلى برنامج Rising Up with Sonali عن الكتاب

https://vimeo.com/251397675

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock