منوعات

الإيمان بالخوارق ونظريات المؤامرة.. لماذا ينتشر بين المتعلمين؟

قد لا يصدمنا أن يؤمن غير المتعلمين بالخوارق والأشباح ونظريات المؤامرة التي لا أساس لها ولا يوجد أي دليل عليها، لكن الصدمة أن هذه الظاهرة المدمرة ممتدة إلى من يمتلكون تعليما عاليا راقيا في كثير من الأحيان، ويبقى التساؤل: ما الذي يمكن أن يدفع هؤلاء للإيمان والاعتقاد بأشياء لا يوجد أي دليل عليها.

الظاهرة ليست قاصرة على المجتمعات العربية والبلدان النامية أو المتخلفة، فالواقع يخبرنا أنها تمتد أيضا إلى دول تمتلك افضل الأنظمة التعليمية و الجامعات في العالم. وقد تكون الأرقام التالية صادمة للقراء العرب، لكن الحقيقة أن ملايين الأمريكيين يؤمنون بنظريات المؤامرة، بما في ذلك الكثير من الحائزين على مؤهلات علمية تخولهم امتلاك معرفة ووعي افضل.

الإدراك خارج الحواس

وعلى سبيل المثال، فإن 20٪ على الأقل من الأمريكيين ما زالوا يؤمنون بوجود صلة بين اللقاحات ومرض التوحد، فيما يعتقد 37٪ على الأقل منهم أن الاحترار العالمي مجرد خدعة، وفقًا لإحصاءات أجريت عام 2015، رغم كل الحقائق العلمية التي تثبت عكس هذه المعتقدات. الأكثر إثارة للدهشة هنا أن 42٪ من الأمريكيين يؤمنون بالأشباح و41٪ يؤمنون بالإدراك خارج نطاق الحواس.

في دراسة استقصائية سابقة جرت عام 2014، قام إثنان من كبار الخبراء النفسيين في نظريات التآمر، هما جوزيف أوسسينسكي من جامعة ميامي وجوزيف بارنت من جامعة نوتر دام، بمسح 100000 رسالة تم إرسالها إلى صحيفتي “نيويورك تايمز” و”شيكاغو تريبيون” من عام 1890 حتى عام 2010 ووجدوا أن نسبة القراء الذين يؤمنون بنظرية مؤامرة واحدة أو أخرى لتفسير الأحداث لم تتراجع مع مرور الوقت، ما يظهر مدى تفشي ظاهرة إيمان الأمريكيين بظاهرة المؤامرة والظواهر الخارقة غير العلمية حتى وقتنا هذا.

قفزات حدسية

كما تقدم دراسة أخيرة نُشرت في دورية الشخصية والفروق الفردية رؤى حاسمة حول سبب اعتقاد الكثير من البشر من ذوي التعليم الجيد والثقافة العالية في أشياء غير صحيحة. وتخلص الدراسة إلى أننا في حالات كثيرة نميل ببساطة إلى الإيمان بأمور تدفعنا لتصديق وربط أشياء ببعضها حتى لو كانت تلك الروابط غير علمية وغير منطقية.

في الجزء الأول من الدراسة المكونة من جزأين، قام علماء النفس توماس ستول من جامعة إلينوي في شيكاغو وجان فيليم فان بروجيان من جامعة فريجي أمستردام بتوظيف 343 شخصًا عبر الإنترنت، وقام الأشخاص عينة الدراسة بملء استبيانات متعلقة بما يسمى بمقياس أهمية العقلانيImportance of Rationality Scale IRS ومقياس الأخلاق في العقلانية Morality of Rationality Scale MRS.

خلال الاختبار الأول طُلب من أفراد العينة الإبلاغ عن مدى اتفاقهم على مقياس من 1 إلى 7 مع سلسلة من العبارات مثل “من المهم بالنسبة لي شخصيا أن أكون متشككا بشأن الادعاءات التي لا تدعمها الأدلة”، وشمل الاستبيان عبارات مثل: “أن تكون متشككا بشأن الادعاءات التي لا تدعمها الأدلة هي فضيلة أخلاقية”. كما تم طرح عدد من الأسئلة عليهم لقياس أسلوبهم التحليلي المعرفي، الذي يبحث أساسًا عن المدى  الذي يستندون به إلى استنتاجات حول وجود الحقائق بدلا من القفزات الحدسية.

وأخيرًا، طلب الباحثون من نفس المشاركين تقييم إيمانهم على مقياس من 1 إلى 7 بالعديد من نظريات المؤامرة المألوفة (مثل: تم تزوير الهبوط على سطح القمر، وكان لدى الحكومة الأمريكية تحذير مسبق من هجمات 11 سبتمبر)، كما تم سؤالهم عن إيمانهم بنظريات مؤامرة أوسع نطاقاً مثل: “هناك منظمات سرية تؤثر بشكل كبير على القرارات السياسية”، وتم قياس الاعتقاد في ستة ظواهر خارقة مختلفة، بما في ذلك التناسخ والتنجيم، بنفس الطريقة.

الدراسة الثانية كانت مماثلة، وسعت أيضا إلى الربط بين الاعتقاد في نظريات المؤامرة والخوارق بالقدرة المعرفية الشاملة. ولتحديد ذلك، أجاب المشاركون على عدد من الأسئلة التي تقيس  المهارات الأساسية لديهم في الرياضيات بالإضافة إلى قدراتهم اللغوية.

نتائج الدراستين انتهت في نفس الاتجاه تقريبا، وكشفت عن ارتباط الدرجات العالية في القدرات المعرفية بدرجات منخفضة في الإيمان بالمؤامرة أو الاعتقاد في الخوارق، وهذا ليس مفاجئا لأن هؤلاء المشاركين يعتمدون على الحقائق الثابتة قبل التوصل إلى نتيجة، لكن  القدرات المعرفية وحدها لم تكن كافية بل كان على الناس أيضا أن يسجلوا درجات عالية في  مستوى أهمية الفكر العقلاني (IRS)، مما يوحي بأنهم لم يفكروا بعقلانية فحسب، بل أنهم اعتبروا هذه الحقيقة ذات أهمية في بناء شخصيتهم، بما يعني امتلاكهم أسباب ومحفزات شخصية للميل إلى التفكير بعقلانية. كان مقياس ربط الأخلاق بالعقلانية ((MRS أقل تأثيرا هنا. وكتب الباحثون “إن التفسير المحتمل” هو أن الـ (MRS) يتنبأ بشكل أساسي بالأحكام والسلوكيات الاجتماعية وليس المعتقدات الخاصة.

استغلال عاطفي

في الدراسة الثانية، توصل الباحثون أن القدرة الإدراكية تلعب دوراً في جعل الإيمان بالخوارق أقل احتمالاً، لكن فقط بين الأشخاص الذين سجلوا أيضًا درجات عالية في أسلوب التحليل. الأمر الأكثر إثارة للقلق في الدراستين هو حقيقة أن الكثير من الناس في هذه الدراسات يسجلون مستويات عليا في جميع المقاييس العقلانية والفكرية، ومع ذلك يتفقون مع نظريات غير علمية ولا تستند إلى أي دليل.

هذا هو الحال في العالم الحقيقي أيضًا، حيث نجد أشخاصا متعلمين بشكل جيد جدا يؤمنون، بل و يدعون من حولهم في بعض الأحيان، للإيمان والاعتقاد في صحة هراء تآمري أو خوارق غير علمية من المفترض أنهم يرفضونها، بل و يحاربونها.

في هذه الحالات، خلصت الدراسة إلى أن السبب قد يكون ببساطة أن هؤلاء ثم الاستثمار فيهم واستغلالهم عاطفياً وأيديولوجياً في تصديق المؤامرات، أو أنهم قاموا بذلك بأنفسهم حيث يستخدمون مهاراتهم المعرفية الكبيرة لإقناع أنفسهم بأن ما هو غير صحيح صحيح بالفعل، فإذا كنت تريد أن تصدق أن اللقاحات خطيرة أو أن الحزب السياسي الذي لا تنتمي إليه يخطط لتدمير بلادك، فعليك أن تشيد لنفسك قضية ذات مصداقية إن لم تكن منطقية فلتكن شعورية أو عاطفية أو غيرها.

طبقا للباحثين القائمين على الدراسة تظهر الدراسة أن الشكوك المعقولة حول نظريات المؤامرة المختلفة والظواهر الخارقة لا تتطلب فقط قدرة معرفية عالية نسبياً، ولكن من الحاسم هنا امتلاك ميل قوي للتفكير بشكل عقلاني”، فعندما لا يكون الدافع لتشكيل معتقداتك المستندة إلى المنطق والأدلة موجودًا، فإن الأشخاص ذوي القدرة المعرفية العالية على الأرجح يؤمنون بالمؤامرات والظواهر الخارقة مثل الأشخاص ذوي القدرة الإدراكية المنخفضة.

ويشرح الباحثون: ” لسوء الحظ، مجرد أن شخصًا ما ذكي أو متعلم بشكل جيد لا يعني بالضرورة أنه يميل للتفكير بشكل عقلاني، فالبشر مهيئون لإيجاد روابط سببية بين الأحداث، بغض النظر عما إذا كانت تلك الروابط موجودة بالفعل”.

ويضيفون: “الخبر السار هو أن الناس يستطيعون تدريب أنفسهم ليصبحوا مفكرين عقلانيين بشكل أكبر من خلال إيقاف حدسهم والتركيز على الحقائق المتماسكة غير المنحازة، فالاعتماد على الحدس والعاطفة يمكن أن يجعل العالم يبدو أكثر قابلية للتفسير في كثير من الأحيان، لكن من الأسلم أن نعترف بأننا لا نستطيع أن نفسر شيئًا أكثر من إدامة الكذب بأن التفسير الخاطئ هو الصحيح”.

رابط الدراسة: https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0191886917306323

 

تامر الهلالي

مُترجم وشاعر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock