فن

شادي عبد السلام.. بعث لم يكتمل

عده البعض قرارا أحمق، أن يترك العمل مساعدا للمهندس المعماري الكبير ويصا واصف بعد حصوله على بكالوريوس الفنون الجميلة ويتجه للسينما ليسجل الوقت الذي تستغرقه تصوير اللقطات في أحد أفلام صلاح أبو سيف، لكن شادي عبد السلام لم يتردد في قبول هذا العمل البسيط فقط كي يقربه من معشوقته السينما، التي بادلته العاطفة، فاختصته عن كل طالبي قربها بأسرارها، وقدمته وميزته كواحد من أهم ١٠٠ مخرج سينمائي بالعالم.

كانت البداية من فيلم الفتوة مع صلاح أبو سيف، ثم عمل مساعدا للمهندس الفني رمسيس واصف عام 1957، فمساعدا لصلاح أبو سيف في أفلام: الوسادة الخالية، الطريق المسدود، أنا حرة، ثم مهندسا للديكور بالصدفة في فيلم “حكاية حب” بعد تغيب المهندس الأساسي، لتغري تصميماته المتميزة العديد من صناع الأفلام بالتعاقد معه لتنفيذ ديكورات فيلم “وإسلاماه”، والفيلم الإيطالي “الحضارة”، والفيلم الأمريكي “كليوباترا”، والفيلم البولندي “فرعون”، كما صمم ملابس وديكورات أفلام: ألمظ وعبده الحامولي، الخطايا، شفيقة القبطية، رابعة العدوية، أميرة العرب، أمير الدهاء، بين القصرين، السمان والخريف.

فترة الإعداد الطويلة في عوالم السينما المصرية والعالمية أهلته لاستقبال أهم حدث بحياته: فيلم “المومياء.. يوم أن تحصى السنون”، الفيلم أحصى كذلك من الجوائز العالمية عددا كبيرا، فحاز على جائزة “سادول” الفرنسية، وجائزة النقاد في مهرجان قرطاج، كما احتل المرتبة الأولى في استطلاع الأفلام الأجنبية بفرنسا عام ١٩٩٤. عام ونصف العام وشادي يكابد في كتابة سنياريو “المومياء”، رفض خلالها عروضا مغرية، وعاش أزمة مادية نتيجة لعزوفه عن العمل، لكنه لم يتنازل عن الاستغراق بكليته في رسالة وصفها ببساطة في قوله “أريد أن أعبر عن نفسي وعن مصر.. أريد أن أعبر عن شخصية الإنسان المصري الذي يستعيد أصوله التاريخية وينهض من جديد”.

المثقف الرسولي رسم الفيلم لقطة لقطة، وصمم أزياء فنانيه، وصنع ديكوراته وكتب السنياريو والحوار، ثم نفخ من روحه فإذا برسوماته تدب فيها الحياة، ليردد ممثليه ما لقنهم إياه، وتتحرك ديكوراته وفق إيحاءات كاميرته، حتى حركة الشمس وسطوعها، وحركة الرياح وفعلها في الكثبان الرملية كانت رهن إرادته، ليخرج “المومياء” بعدها أمام الأبصار الذاهلة تحفة تسر الناظرين.

يهب شادى للسينما بعد “المومياء” العديد من الأفلام القصيرة، أهمها: الفلاح الفصيح (١٩٧٠)، آفاق (١٩٧٠)، جيوش الشمس (١٩٧٤) كرسي توت عنخ آمون الذهبي (١٩٨٢)، الأهرامات وما قبلها ١٩٨٤، ورعمسيس الثاني (١٩٨٦)… تعددت الأفلام والرسالة واحدة: “وصل الماضي بالحاضر، وبعث المصري القديم لتشكيل المستقبل”.

وكما تفرد شادي في صناعة فيلمه الروائي الطويل الأول “المومياء” برع في أفلامه القصيرة، لتحوز على عدد كبير من الجوائز المحلية، فحصل “الفلاح الفصيح” على سبع جوائز، و”آفاق” على ثلاثة جوائز، و”جيوش الشمس” على جائزتين، وحاز جائزة الدولة التشجيعية عن “توت عنخ آمون”، كما حصل على جائزة الدولة للفنون عام ١٩٨٥.

دفعه بالفيلم المصري إلى العالمية، وجمعه لهذا العدد من الجوائز المحلية، بجانب فوزه بالعديد من الجوائز الدولية؛ لم يشفع له لدى البيروقراطية المصرية لتنفيذ مشروعه الروائي الثاني “أخناتون”. عشر سنوات وشادي يُحضر للعمل، فكتب السنياريو، وأعد الأزياء، وصمم الديكورات، ورسم المشاهد، ثم سعى لأن تنتجه وزارة الثقافة، رافضا كل العروض الأجنبية والعربية؛ إذ أراد للفيلم أن يكون مصريا خالصا كبطله، الملك الموحد أخناتون، لكن سعيه جوبه بالتجاهل وعدم الاكتراث.

رحل شادي عن عالمنا عام ١٩٨٦ وبقي مشروعه ينتظر البعث. عاش معذبا بالوعي، مفارقا للسائد، منتصرا للحلم لا للواقع، وككل أبناء سلالته النادرة والخالدة، الملدوغين بحب الإبداع استهدف في جهاده المستقبل مستعينا بتعاليم الماضي ومفاخره، ليعاكسه أبناء الحاضر المنحط، فيدير ظهره لهم بعد أن أعيوه، ويبدأ رحلته إلى العالم الآخر، حيث لا خوف عليه ولا حزن يصيبه (1986).

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock