منوعات

اقتصاد يوليو.. حلم التنمية المستقلة الذي لم يحتمله الغرب

لم يكن اهتمام ثورة يوليو 1952 بالتنمية الاقتصادية قاصرا على التوسع في مساحة الأرض المزروعة وإعادة توزيع الملكية وقانون الإصلاح الزراعي الذي صدر في 9 سبتمبر 1952، فالتدابير التي اتخذت خلال السنوات الأولى لحكم الثورة توحي بأنها سعت لأهداف تنموية كبرى أخرى منذ البداية.

أول هذه الأهداف كان يتعلق بتنويع هيكل الاقتصاد المصري من خلال التصنيع أساساً، وبدأ في المراحل الأولى بحفز الصناعة التابعة للقطاع الخاص، ومشاركة الدولة في مشروعات صناعية جديدة، وزيادة معدلات الاستثمار في قطاعات الكهرباء والزراعة والخدمات الأساسية.

الرئيس الراحل جمال عبد الناصر

والمتابع لتاريخ مصر المعاصر لا يملك إلا الوقوف باهتمام أمام تلك التحولات الاقتصادية الكبرى التي شهدتها البلاد في أعقاب ثورة يوليو 1952، والتي رصدتها كتابات قليلة منصفة باعتبارها التجربة الثالثة للنهوض في تاريخ مصر الحديث، بعد نكسة تجربة محمد علي في التصنيع وتوقفها، ومن بعدها تعثر تجربة طلعت حرب في بنك مصر بفعل الأزمة التي اصطنعها الانجليز عام 1939 لشل قدرات البنك في مجال التصنيع الوطني.

فبعد أن قطع بنك مصر بقيادة طلعت حرب خطوات مهمة في تشييد عدد من صروح الصناعة المصرية، استشعرت انجلترا الخطر من ضياع هيمنتها على السوق المصرية، فسعت إلى تشجيع بعض رجال الأعمال المصريين ذوي الارتباط  برأس المال الأجنبي مثل أحمد عبود وإسماعيل صدقي وحافظ عفيفي وغيرهم لتنفيذ مشروعات صناعية منافسة لبنك مصر، أهمها صناعات السكر والأسمدة، بهدف حرمان البنك من فرص استكمال مسيرته لبناء صروح صناعة وطنية تعتمد على مساهمات المواطنين، لتتعثر مشروعاته وتبدأ رحلة معاناة استمرت حتى قيام الثورة عام 1952.

طلعت حرب

تنويع الاقتصاد

كان قادة يوليو كما يقول روبرت مابرو، يدركون أن ندرة الأرض الزراعية تمثل عقبة كبرى أمام التوسع الزراعي، كما أن ندرة الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة تحد من فرص النمو الصناعي والنهوض بالاقتصاد عامة. سعت الثورة إلى تبني طموحات الحركة الوطنية المصرية منذ الثلاثينيات والأربعينيات التي دعت إلى تنويع الاقتصاد والخروج من دائرة الاعتماد على تصدير القطن الخاضع لتقلبات الأسواق العالمية، والتحرر من نفوذ الجاليات الأجنبية على الاقتصاد.

الانتباه مبكرا لأهمية تنمية الدخل القومي وتسريع معدلات التراكم الرأسمالي بدا جليا في العديد من الخطوات التي استهلت بها الثورة الوليدة سنوات حكمها الأولى، فكان إنشاء المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي في أكتوبر 1952، كهيئة مستقلة تعني بمشاريع التنمية في الزراعة والكهرباء والنقل والتجارة والتصنيع وإعادة تنظيم الأسواق المحلية، ضمن خطة لا تتجاوز ثلاث سنوات، يجري تنفيذها على مراحل بمشاركة القطاعين العام والخاص، إضافة للمصانع الحربية.

وتلا ذلك إنشاء المجلس الدائم للخدمات العامة في أكتوبر1953 كهيئة مستقلة تختص بخطط النهوض بالتعليم والصحة والخدمات الأساسية عامة، وكان ذلك ضروريا بعد إهمال التعليم العام إلى حد كبير، في ظل حكم الاحتلال البريطاني، حسب شهادة روبرت مابرو.

روبرت مابرو

سعت الثورة في البداية لحفز رأس المال الأجنبي عبر قانون الاستثمار الأجنبي عام 1953 الذي أتاح له المشاركة بنسبة 51% من رأس المال، وأفسحت المجال للقطاع الخاص، إلا ان الإقبال على المشروعات الصناعية ظل ضعيفا، عندها بادرت الدولة بإنشاء أول وزارة للصناعة وتبني برنامج السنوات الخمس للتصنيع.

وفى عام 1957 تم إنشاء المؤسسة الاقتصادية لإدارة الشركات والمنشآت الأجنبية التي صدرت قرارات تمصيرها عقب العدوان الثلاثي عام 1956. وأعقبه في العام نفسه قرار إنشاء المجلس الأعلى للتخطيط القومي برئاسة رئيس الجمهورية للاضطلاع بمهام تحديد الأهداف الاقتصادية والاجتماعية ووضع الخطط السنوية لتنفيذها ومتابعتها دوريا. وحرص برنامج السنوات الخمس 1957-1962 على مراعاة التوازن الإقليمي للصناعة وتوطين المصانع الجديدة في أنحاء مصر، وفقا لتوافر الخامات والمرافق والقوى المحركة.

د.عزيز صدقي أول وزير صناعة في عهد الثورة

عراقيل متعمدة

لم يخل الأمر بالطبع من عراقيل لإعاقة خطط النهوض الاقتصادي، فقد عمدت أطراف أجنبية إلى التخلي عن مواصلة دعمها لشركات محلية، وتعطيل أعمال الصيانة في عدة شركات (كوتاريللي للسجائر، وأبو زعبل للأسمدة)، فيما تلاعب رأسماليون مرتبطون بالمصالح الأجنبية بأسعار التصدير والاستيراد لتهريب رؤوس أموالهم للخارج، وضغطت الأطراف الأجنبية التي كانت لا تزال مهيمنة على البنك الأهلي المختص وقتها بإصدار العملة لحجب الائتمان اللازم لتسيير شئون الدولة، كما عمدت شركات خاصة ذات ارتباط بالمصالح الأجنبية لعدم تسديد الضرائب المستحقة، فاضطرت الدولة لفرض الحراسة عليها، ومنها شركتي السكر والتقطير المصرية.

أجبرت هذه التطورات الدولة على الاضلاع بدور أكبر في الاقتصاد لمواصلة جهود التنمية عن طريق القطاع العام، بعد إخفاقها في نهج الاقتصاد الحر الذي كانت قد بدأته مع تدخل معتدل من جانب الحكومة. اضطرت الدولة بعدها لتأميم أكبر بنكين في عام 1960، وهما البنك الأهلي للسيطرة على السياسة النقدية، وبنك مصر الذي كانت شركاته تسهم بإنتاج نحو 20% من إجمالي الإنتاج الصناعي، وتم إنشاء مؤسسة للإشراف على البنك وشركاته، دون مساس بمساهمات الأفراد.

وهكذا تعاملت الخطة القومية الأولى مع اقتصاد مختلط لدى بدء تنفيذها فى منتصف 1960. وفي يوليو 1961 صدرت قرارات التوسع فى القطاع العام بتأميم 17 بنكا و17 شركة تأمين و115 شركة أخرى معظمها يعمل فى مواد البناء والتشييد وشركات النقل العام والملاحة البحرية، بهدف السيطرة على العناصر الحاكمة للاستثمار والنمو الاقتصادي.

شهادة أمريكية

ويقول جون بادو السفير الأمريكي في القاهرة خلال الفترة 1961-1964 في كتابه الذي تناول ثورة يوليه وعبد الناصر: “حينما صدرت قوانين التأميم ثارت ضجة حولها فقررت تكوين فرق عمل من رجال السفارة لدراستها بدقة، وانتهينا إلى أن حجم القطاع العام الجديد في مصر أقل من مثيله في إسرائيل والهند وفرنسا وبريطانيا، بل وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وأن وجوده لا يصادر القطاع الخاص أو يغلق الطريق أمامه، بل على العكس يحفزه ويدفعه للمنافسة في ظل اقتصاد مختلط كما حدث في هذه الدول”.

ويضيف بادو: “لمزيد من الاطمئنان من جانب واشنطن أوفد الرئيس جون كيندي مبعوثا خاصا هو إدوارد ماسون أستاذ الاقتصاد المشهور، الذي عكف على دراسة مفصلة للقوانين وللأوضاع في مصر، ورفع تقريراً يتلخص في أنه لم يكن أمام ناصر طريق آخر أفضل”.

جون كينيدي

سباق مع الزمن

كانت خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للسنوات الخمس1961/1960 ـ 1965/1964 من أهم الإنجازات على المستويين المصري والعربي، بل والعالم الثالث. ومثّل الإعداد لها كأول خطة قومية سباقا مع الزمن والفكر للتغلب على أسباب تخلف دول العالم الثالث التي عزاها البعض إلى ضعف مصادر تمويل الاستثمارات اللازمة لتوسيع قاعدة الإنتاج، بسبب محدودية رأس المال المحلى وتواضع الدخل القومي مع إحجام رأس المال الأجنبي، بينما وجه آخرون الاتهام إلى الاستعمار الذي فرض على الدول النامية التخصص في أنشطة أولية، زراعية وتعدينية، ليغذي صناعاته بتكلفة منخفضة ويستأثر بالتصنيع، مفتاح التنمية الحقيقية ورفع مستوى الدخل، ما يعزز أهمية أن يقترن الاستقلال السياسي بآخر اقتصادي.

مع نهاية الخطة الخمسية الأولى في منتصف عام 1965 أصبحت مصر تتفوق في مؤشراتها الاقتصادية على بلدان مثل كوريا الجنوبية، وسجل الناتج المحلي الإجمالي 5.1 مليار دولار ونصيب الفرد في الناتج المحلي 173 دولار، مقابل 3 مليارات دولار للناتج المحلي الإجمالي الكوري و105 دولار نصيب الفرد.

لم تستطع مصر إكمال الخطة الخمسية الثانية بسبب كارثة 1967 لكنها تمكنت رغم ذلك من إضافة الفرن الثالث والرابع في مجمع الحديد والصلب. وبوفاة جمال عبد الناصر وتولي أنور السادات الحكم في نهاية 1970، بدأت مسيرة التخلي عن نهج التنمية المستقلة، وتبني نهج مغاير يراهن على جذب المستثمر الأجنبي، فيما أطلق عليه سياسة “الانفتاح الاقتصادي”، التي تم إعلانها منتصف السبعينيات لتدشن مرحلة التحولات الصادمة في أداء الاقتصاد والتركيب الديموجرافي للشعب المصري في آن معا، والتي لا نزال نعيش تداعياتها غير المسبوقة حتى اليوم.

مصنع الحديد والصلب

حسني كحلة

باحث في الاقتصاد السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock