دار الكتب

رجل نصف مخبوز

المسألة ومافيها أنه ربما درس في المدرسة لعدة سنوات، يمكنه القراءة والكتابة ولكنه لا يستوعب ما يقرأ، إنه نصف مخبوز، والبلاد مليئة بأناس مثله، سأخبرك أيضا أننا نثق بديمقراطيتنا البرلمانية العتيدة ونعتمد علي أمثاله، تلك هي مأساة بلادنا، تلك هي مأساة الهند.

استمع السائق لكلام سيده وظل يفكر فيه مساء، لم تعجبه الطريقة التي تحدث بها عنه لكنه كان محقا فيما قال، حتي أن السائق (بالرام حلوي) فكر أن يسمي سيرته الذاتية (مذكرات هندي نصف مخبوز).

(لم يسمح لنا بأن نكمل تعليمنا، افتح جماجمنا وتفحصها تحت ضوء مركز ستجد جملا من الكتب المدرسية وجملا من عناوين الصحف ونشرات الأخبار والأشياء التي تسقط في الذهن كما تسقط الزواحف الصغيرة من السقف، كلها أفكار نصف متشكلة ونصف مهضومة ونصف مصححة تطبخ في رأسك وتنتج ما يشبهها وتتوالد، وهو الأمر الذي تتصرف به وتعيش)

هكذا يأخذنا (آرافيند أديغا) الروائي الهندي في روايته (النمر الأبيض )

الحاصلة علي جائزة البوكر العالمية عام 2008(النمر الأبيض) وكان عمر الأديب الهندي لايتجاوز 33 عاما وهي روايته الأولي.

 تلك الرواية التي تكشف الديمقراطية الشكلية والإنجازات الزائفة والحياة التي تنقسم بحدة لطبقتين، العليا المتنفذة الغنية التي تحيا كما يصفها في (النور) في العاصمة دلهي حيث المجمعات السكنية ومراكز التسوق الفاخرة، والطبقات الدنيا التي ترزح تحت أغلال الفقر والتخلف في (الظلام) في القري البعيدة المنسية. إنها رحلة (مونا) أو الولد الذي دخل المدرسة بلا اسم وأعطاه المدرس اسمه الرسمي (بالرام حلوي) والذي لم يشفع له ذكاؤه وتفوقه وإعجاب المفتش به شيئا.  

كان ذلك تفتيشا مفاجئا بالنسبة للمدرس الذي لم يجد ردا علي أسئلة من نوع أين التغذية المدرسية؟ أين الزي المدرسي؟ سوي قوله: عذرا يا سيدي.

(لاتوجد ممحاة في الصف ولا كراسي ولا زي موحد للطلبة، كم سرقت من الأموال المخصصة للمدرسة يا أستاذ؟)

أجاب: عذرا يا سيدي .. عذرا يا سيدي، فراتبه لا يكفي شيئا وتلك المبالغ التي يستولي عليها تساعده كي يعيش.

كتب المفتش أربع جمل علي السبورة وطلب من أكثر من طالب قراءتها، فشلوا جميعا، قال المدرس “جرب بالرام” يا سيدي إنه الأذكي بينهم إنه يقرأ جيدا)

قرأ الولد جيدا وأجاب علي جميع الأسئلة بمهارة والاجابات ليست كلها من الكتب المدرسية، بعضها قرأه في شعارات الانتخابات والإعلانات التي تتحدث عن الولاء للوطن وإمكانية أن يجعلك التعليم يوما رئيسا للوزراء، وفي النهاية سأله المفتش:

ماهو الحيوان الأكثر ندرة، المخلوق الذي يصادف مجيئه مرة في كل جيل؟

أجاب الولد: النمر الأبيض.

قال المفتش: هذا ما أنت عليه في هذه الغابة. وهكذا أعطاه لقب النمر الأبيض، ووعده بمنحة دراسية وأهداه كتابا، وكرمه أمام التلاميذ، ولكن الأخبار الجيدة في الظلام تتحول لأخبار سيئة، فقد نسيه المفتش تماما وأخرجته جدته من المدرسة ليعمل في مقهي علي الطريق كصبي يكسر الفحم ليحصل علي بعض المال.

استطاع الولد تعلم قيادة السيارات وظل يعرض نفسه كسائق في العاصمة دلهي حتي قبله رجل أعمال ينتمي لنفس قريته، عمل لديه سائق وخادم وكل ما يمكنه القيام به واستغلاله فيه، فهو يغسل قدمي الرجل الكبير ويهتم بشئون الكلب ويبتاع المشتروات ويكنس باحة الدار. وأعطاه السيد الكبير لقبا جديدا (فأر القرية) وكان ينعته به كلما اخطأ مصحوبا ببعض الضربات.

كان لسيد القصر اثنان من الأبناء، الكبير في نفس قسوته واحتقاره للخدم، أما الصغير (آشوك) فهو مختلف، ربما لأنه تعلم وعاش فترة كبيرة من حياته في أمريكا وعاد بزوجة أمريكية شقراء وقيم غربية.

عندما تاه بهما الولد في دلهي ذات الشوارع المتشابهه عنفه الكبير وكاد يضربه ولكن (آشوك) دافع عنه، في تلك اللحظة لمح الولد في عيني سيده الصغير عاطفة غير متوقعة بالنسبة له أبدا إنها الشفقة. شعر الولد بأن سيده الصغير لديه مشاعر رقيقة، لو كان في القرية كانوا سيطلقون عليه (الحمل).

يعيش الفقراء فيما يشبه قفص الدجاج راضين ببقايا أموال وحياة السادة، يمكن للخادم أن يسرق مبلغا صغيرا من سيده لا يلفت نظره أو يغالط في ثمن البنزين وإصلاح السيارة ولكن مبلغ مليون روبية يجعله يخاف ويسلمه فورا للشرطة، لو سرقه ستنقلب الدنيا عليه وحتي لو نجح في الهرب ستعاقب عائلته كلها، حتي أنك إذا وضعت مفتاح التحرر في يد الخادم سيعيده لك لاعنا.

في كل يوم يستيقظ الملايين عند الفجر ليقفوا في حافلات قذرة ومزدحمة ليقدموا خدماتهم مقابل أجر زهيد دون تذمر أو احتجاج. لماذا ينجح قفص الدجاج؟

 كيف يوقع في فخه هذا العدد الكبير من الناس وبهذه الفعالية؟.

 هل يمكن لأحد أن يكسر القفص ويخرج منه؟.

 ماذا لو علي سبيل المثال سرق سائق أموال سيده وهرب؟

الحقيقة أن النمر الأبيض قد فعلها. فقد سرق مال الرشوة المخصص لكبار المسئولين ليدخل أبناء سيده الكبير مجلس الشعب، سرق الحقيبة الحمراء المتخمة بالمال من سيده الطيب (آشوك) وقتله غدرا وغيلة وهرب لمقاطعة أخري ذات قوانين مختلفة، غير جلده وهيئته واسمه وقد اتخذ نفس اسم سيده المغدور (آشوك).

عندما قرأ يوما في جريدة الصباح مصرع أسرة مكونة من 17 شخصا في قرية نائية علم أنها أسرته ولكن لم يبالي، قائلا لنفسه لابد أن كل الأغنياء الأقوياء أريقت بعض الدماء في طريقهم للمجد، صار رجل أعمال، أصبح يعيش في النور، غسل أمواله وصار يعرف القانون المعلن والقانون الموازي الذي يسمح للكبار بكل شيء ويجعلهم فوق مستوي المساءلة.

 تطرح الرواية سؤالا تفصيليا: لماذا لا تتقدم بعض المجتمعات رغم شعارات الديمقراطية وحب الوطن والولاء والانتماء؟.

 تأتي الرؤية هنا من أسفل من القاع من عند الولد ابن ساحب العربة الذي كانت كل مهنة أبيه الوقوف بعربة خشبية ينقل بها من يدفع قروشا من زبائن مقهي القرية حتي بيته، كان يسحب العربة بنفسه بديلا عن الحمار، ولما كان يتمني أن يصير ابنه انسانا وليس حمارا ألحق  الولد بالمدرسة وترقي شأنه حتي أصبح سائقا يجلب لهم بعض المال والجاه أيضا، ولكن النمر الأبيض لم يكتف بهذا وصمم علي كسر قفص الدجاج، فهل يصمد كثيرا؟

إيمان القدوسي

كاتبة وصحفية مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock