منوعات

اغتيال الكتب.. مَنْ يمنح الحماية للتراث؟

تروي المصادر التاريخية أن أحد القساوسة الذين رافقوا الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي في القرن العاشر الميلادي تجول في القاعة المخصصة للقرآن الكريم بإحدى المكتبات العامة، فاعتقد أن المكتبة بجميع قاعاتها مخصصة للقرآن الكريم، فأعطى أوامره بحرقها.  

التعصب والكراهية والرغبة في التخلص من الآخر كان هو المحرك الأول للعديد من وقائع اغتيال الكتب في التاريخ الإنساني. صحيح أن تاريخ  العالم عرف العديد من وقائع إبادة وإختفاء المكتبات بفعل العوامل الطبيعية، فقد أتلفت فيضانات فلورنسا في العام 1966 قرابة مليوني كتاب كان العديد منها مخطوطات نادرة وثمينة، وفي العام 1988 التهمت نيران مٌدمرة ما يقرب من 4 ملايين كتاب في مكتبة أكاديمية العلوم في ليننجراد، إلا أنه رغم عظم ما قد يضيع من تراث الإنسانية في مثل تلك الحوادث، فالأكثر إيلاما هو ما يضيع من تراثنا الإنساني بفعل عمليات الإنتقام الإثني والاجتماعي أو تعمد بعض الأنظمة السياسية التخلص من التراث والإنتاج الفكري لجماعات مناوئة.

تدمير المكتبات مسألة لا تتوقف خطورتها عند مجرد ضياع جهد تراكمي خاص بأشخاص أو جماعات، إنما هو محاولة لإخفاء وإزالة جزء من ذاكرة الإنسانية، والتخلص من هوية جماعات يحفظ تاريخها وتطورها في الزمان والمكان. الأخطر أن مثل هذه الأفعال لا تكون مجرد خبط عشوائي أثناء الحروب والصراعات والنزاعات العرقية، فهي غالبا ما تكون ضمن مخطط مكتمل الأركان لانتصار أيديولوجية أو انتماء ما في مقابل محو وسحق الآخر.

ويتخذ تدمير الكتب أشكالا عدة بدءا من الحرق والتدمير، ومرورا بالمصادرة لصالح المنتصر وحرمان المنهزم من الاستفادة بنتاجه الفكري ومخزونه التراثي، وانتهاء بالمصادرة وفرض الرقابة على التأليف.

علي مدار القرن العشرين كان تدمير المكتبات الكبرى واحدة من آليات الانتقام التي تعمد إليها الأنظمة السياسية أثناء الحروب الدولية والأهلية، وهي مسالة لا تقل خطورة عن عمليات التطهير العرقي والإثني التي عادة ما تصاحب تلك الاضطرابات، كما حدث على يد النازيين إبان حكمهم في ألمانيا، والصرب في البوسنة، والماويين أثناء الثورة الثقافية الصينية، والشيوعيين الصينيين في التبت، وإن اختلفت الآليات.

ففي أثناء الحرب العالمية الثانية فقد الألمان ما بين ثلث إلى نصف كتبهم نتيجة القصف البريطاني المتواصل على المدن الألمانية، كما فقد اليابانيون نصف كتبهم جراء القنابل الحارقة التي ألقاها الأمريكيون على المدن اليابانية. وعلى الرغم من زعم باحثين غربيين – كما تقول ربيكا نورث –  أنه من الصعب إدراج تلك الحوادث ضمن عمليات إبادة الكتب المتعمدة، باعتبارها جاءت نتيجة أخطاء صاحبت الحرب، إلا ان هذا الزعم لا يبرر ما ارتكبه البريطانيون والأمريكيون في إهدار هذا الكم الهائل من تراث الإنسانية، حتى لو كان يخص أعداءهم من النازيين واليايانيين.

وفي دول العالم الثالث، لا تزال بعض الأنظمة السياسية تسعى لاغتيال خصومها السياسيين بمصادرة مؤلفاتهم وحرقها، فليس ثمة عقاب أقسى على مبدع ومؤلف ومفكر من سحق نتاج جهده في البحث والتأليف على مدار سنين. ورغم تبريرات مخجلة يسوقها بعض النخب المنتفعة من المثقفين، ترى في حرق مؤلفات خصومهم انتصارا للحق على الباطل، إلا أن الحق والباطل يبقى ملكا للإنسانية التي تستطيع مع مرور السنوات اختبار صحة الأفكار وإقرار مدى صحتها من عدمه، فالعلوم كما هو معروف نسبية، ونتائجها ليست مطلقة، وتجري عليها عوامل النقد والتطور كل يوم.

 ويبدو العالم اليوم بما وصل إليه من تطور إنساني في الحقوق والحريات أحوج ما يكون إلى استصدار ميثاق دولي يحرم المساس بالمكتبات والكتب، ويفرض لها نوعا من الحماية الخاصة من قبل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في المناطق التي تشهد توترات واقتتال أهلي.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock