رؤى

«تدين العوام» .. وتزيد الأدعياء

لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، مقولة شاعت على ألسنة الخطباء من كل التيارات الإسلامية، تختزل باطمئنان أسباب تخلف وانحطاط المجتمعات الإسلامية فى الابتعاد عن الدين، وتعتقد أن الشرط الموضوعى للتقدم والحضارة هو العودة للدين.

هل ترك المسلمون دينهم بالفعل؟ هل تنكروا لقيم التقدم التى يستبطنها ويدعو لها؟ يتباين مفهوم العودة للدين من جماعة إلى أخرى، وتعتقد كل جماعة أنها وحدها من استلهم حقائق الدين ومن احتفظ بجوهره المفيد والنافع.

العودة للدين مفهوم ظهر إلى واقعنا بعد ظهور جماعات حركية احتقرت تدين العوام من الناس أو الجمهرة الغالبة منهم، مبشرة بمستوى آخر من التدين يسميه الإخوان الدين الذى يصنع الإيمان الحى، مقابل الدين الذى ينتج إيمانا نائما او مخدرا لا يحمل أصحابه على خلق أو عمل.

العودة للدين لدى الإخوان تعنى أن تنتظم داخل الجماعة جنديا تسمع وتطيع مستلهما أنماط تدين تجعلك عبدا للتنظيم، الذى هو بدوره عبد مطيع لقائده أو نقيبه، حتى ادعى بعضهم أن المرشد نفسه يخضع لنفس الدائرة ولديه مسؤول تربوى هو قائده الروحي.

يقبل الإخوان من البعض ألا يكونوا أعضاء فى التنظيم، بشرط أن يخضعوا لوصاية التنظيم الذي يحتفظ بالحق الحصري فى فهم وتفسير مراد آيات الكتاب وأحاديث السنة، فالعودة للدين لدى الإخوان تعنى أن تسلم بأفكارهم وأن تفهم الدين كما يفهمه الإخوان، فى ظل الأصول العشرين لركن الفهم الذى هو ركن ضمن أركان عشرة تسمى أركان البيعة، بيعة الولاء والخضوع للجماعة وقوانينها.

يعتقد الإخوان أنهم يملكون النسخة الأصلية للدين، وقد أضافوا لأركان الدين ركن الإمامة التى جعلوها أصلا من أصول الاعتقاد. في النهاية هم حزب سياسى، والغاية تبرر الوسيلة التي هي  توظيف عواطف الناس الراسخة تجاه الدين لخدمة مشروعهم السياسى.

الدين لدى الإخوان خاضع لأهواء السياسة ومصالحها، لذا لا غضاضة أن يفتى مفتيهم بأن القتال مع الأمريكان فى العراق واجب على الجندى الأمريكي المسلم، بينما القتال مع داعش ضد الشرطة والجيش المصري مشروع.

دين الإخوان فرق المجتمعات، بل فرق البيت الواحد تحت مطارق السياسة التي هي فن النسبي، بعد أن خلط الإخوان بين المطلق والنسبي حين جعلوا الدين سياسة والسياسة دين. المجتمع لدى الإخوان ليس مؤهلا للاختيار ويبقى بحاجة دائمة إلى الوصاية من نخبة الإخوان التى تملك وحدها النسخة الصحيحة للدين.

أما دين السلفيين الذين يريدون حمل الناس عليه، فيضع قضية التوحيد مع الهدي الظاهر، لحية أو نقاب، فى المقدمة وبعدها كل شيء هين. تحمل الجماعات السلفية أعضاءها على طلب علم اختزلوه فى قضية التوحيد، ضمن التقسيم المعروف لديهم بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، على تفصيل لدى الوهابية أو غيرهم.

يعتقد السلفيون أن الشريعة يجب أن تطبق دون أن يعرفوا ماذا تعني الشريعة، هل تعني الحدود أم المقاصد أم غيرها. هم بين سلفية ساكنة تقبل ولاية المتغلب مادام لا يتعرض لحريتهم فى ممارسة طقوس الدين الساكنة رافعين دوما راية مكتوب عليها “سلطان غشوم خير من فتنة تدوم”.. وبين  سلفية جهادية ترى الدين سيفا مرفوعا فى الخافقين إلى قيام الساعة يجاهد الكفار والمنافقين. الفئتان تتسع ساحاتهما وتضيق بهوى تلك الجماعات، وأبرز تجليات هؤلاء فى الواقع داعش والقاعدة على تباين فى العداء لعدو قريب أو بعيد. في النهاية دين السلفيين هو دين خاص، العودة إليه تعني رفع لواء الحرب على العالمين إلى يوم الدين.

العودة للدين لدى أرباب التصوف الطرقي تعني أن تسلم قيادك لشيخك ليصلح باطنك بما يراك أهل للتخلق به والمحافظة عليه من أذكار وأوراد، والتصوف بتلك الطريقة ساحة تمتلئ بحق وبباطل.

العودة للدين لدى العوام لا تعني سوى أن تعبد الله وترجوه وتخشاه، تعتقده أهلا لكل جمال وكمال، تحب الخلق لأنهم خلقه وتشفق عليهم وترحمهم وتتغافر معهم دون تفلسف أو ادعاء بأنك الأكمل إيمانا وخلقا، تتهم نفسك دائما وترى الناس أفضل منك ولا تزكي نفسك أبدا. العوام وحدهم من يعبدون الله ببساطة ودون تفلسف، ودون أن يتهموا الآخرين بنقص في دينهم أو عقلهم ولا يمارسون عليهم وصاية بدين أو علم أو خلق.

العودة للدين تعني أن تكون هناك منظومة قيمية تتكامل فيها دوائر الدين مع العرف مع التجربة، وما أكمل وأجمل ما كتبه العلامة الإمام محمد عبده حين أسس للهدايات الأربع فى حياة المسلم والتي لخصها فى العقل والنقل والتجربة والوجدان.

لو تأملنا فى واقع العوام لوجدنا أنهم وحدهم من ألزموا أنفسهم تلك الهدايات الأربع، فهم لا يفهمون ولا يقبلون إلا حكم عقولهم على النقل قرآنا وسنة، فلا يقبلون الشاذ من الأفكار أو التعاليم وهم يحترمون تجربة البشر حين يحترمون العلم، وهم يستجيبون لوجدانهم أو قلبهم أو فطرتهم النقية.

العودة للدين هي أن نتفق على قيم التقدم فى ديننا وفى تجربة البشر، متلازمتان متكاملتان دون تناقض، أن يتصالح الدين مع الدنيا وأن نحدد لكل منهما فضائه، أن تعود مؤسسات الدين لإنتاج نسخ تدين قابلة لأن تصلح واقع الناس حكاما ومحكومين، بأن ننتصر للعقل والنص والتجربة والوجدان فلا نقتحم ساحة دون أخرى أو دائرة دون سواها.

شقيت الجماعات الإسلاموية بأفكارها، وسعد العوام بتصوراتهم عن الدين، فهل يلهم العوام من يدعون امتلاك الحكمة المطلقة؟ وهل يتواضع الإسلاموين لحظة ليعيدوا اكتشاف النسخة الأصلية للدين.

أحمد بان

كاتب و باحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock