رؤى

العقيدة و السياسة.. وما بينهما من اتصال وانفصال

العقيدة هي ما اعتقده قلب الإنسان وصدقه تصديقا جازما إلي حد موضع الربط علي القلب. وقد استخدم علماء الكلام تعبير “الإيمان المجمل” ليشير إلي ما اعتبر معلوما من الدين بالضرورة، أي الحد الأدنى المجمع عليه المطلوب ليكون الإنسان داخلا تحت مسمي الدين الذي يكون به الإنسان واحدا من جماعة المسلمين، وهناك قضايا عديدة تناولتها كتب العقائد حول الإيمان والقدر والقضاء والأسماء والصفات المتعلقة بذات الله سبحانه  وتعالي.

وقد اختلفت الفرق الكلامية حول قضايا العقيدة اختلافا كبيرا، كل فرقة تؤول قضايا العقيدة وفق فهمها ومنازعها الفكرية والسياسية والجدالية، ووسط كل هذه المنازعات الجدالية والتأويلية ظهر ما أُطلق عليهم “أهل السنة والجماعة”، ليمثلوا ما نطلق عليه في العلوم ا لاجتماعية “التيار الرئيس” Maian-Stream الذي يعبر عن الوسط بين الأطراف المتنازعة في التصورات والأقوال.

وفي عالم السنة ظهرت كتب مختصرة  للعقيدة تعبر عن ذلك العالم قبل أن تحظى بشروح مطولة في قرون لاحقة، ومن أهم تلك الكتب “العقيدة الطحاوية” نسبة إلي مؤلفها أبو جعفر الطحاوي (238-321 هـ – 852-933م) وقد أطلق عليها في مقدمتها بيان عقيدة أهل السنة والجماعة علي مذهب فقهاء الملة أبو حنيفة النعمان وأبو يوسف يعقوب إبراهيم وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، وما يعتقدون من أصول الدين.

تحتوي العقيدة الطحاوية على ثلاثين مسألة مختصرة لا تزيد عن مطبوعة في  بضع صفحات قليلة، وهي موقف جدلي بالأساس مع بعض الفرق الأخرى التي جادلت أهل السنة والجماعة في قضايا الاعتقاد التي ذكرها الطحاوي، وهو عالم مصري من طحا وأمه كانت مصرية هي الأخرى وتعلم هو علي يديها ضمن من تعلم علي أيديهم من العلماء الآخرين الذين يزيدون علي ثلاثمائة كلهم من مصر.

ولو نظرنا نحن كمسلمين معاصرين للعقيدة الطحاوية فلن نشعر بما كان يشعر به مؤلفها وشارحوها منذ القرن الثامن الهجري من تهديد علي العقيدة الصحيحة من الفرق الأخري التي لم تعد موجودة أصلا مثل الجهمية والجبرية والقدرية وغيرهم.

ولا يعرف المسلمون عامة القضايا العلمية المجملة التي حوتها تلك الورقات الصغيرة كما لا يعرفون شروحها  الكثيرة والمتنوعة التي بدأها ابن أبي العز الحنفي في القرن الثامن الهجري بعد خمسمئة سنة تقريبا من تأليفها، فقد غلب عليهم الميل إلى عقائد البساطة والفطرة التي عبر عنها الفخر الرازي، بقولته: ليتني أموت علي عقيدة عجائز نيسابور.

ومع مجئ الحالة الإسلامية المعاصرة، في العالم العربي خاصة، عقب سقوط الخلافة العثمانية، فإنهم أعادوا الاهتمام بقضايا العقيدة القديمة معيدين نفس الخلافات الفكرية القديمة علي أرضية العقيدة، وانقسم طلبة العلم داخل تلك الحالة ليحتكروا لأنفسهم العقيدة السلفية الصحيحة ويصموا غيرهم أنهم أشاعرة ومرجئة ومعتزلة وما تريدية  وجهمية، لنعيش مجددا خلافات الفرق والتيارات الفكرية القديمة.

الولع بالعقيدة لدي منتسبي الحالة الإسلامية المعاصرة جعلهم يستهلون مشوارهم العلمي بحفظ متون العقيدة والاستغراق في شروحها والوقوف في وجه الآخرين بوسمهم أنهم لا ينتمون للعقيدة الصحيحة.  وهكذا وضعت الحالة السلفية نفسها في مواجهة التيارات الأخرى داخل الحالة الإسلامية، كما وضعت نفسها في مواجهة مجتمعها لتحريره من عقائد الصوفية والتشبيه وكل ما اعتبروه خروجا علي الخط الأرثوذكسي التمامي الصارم.

المشكلة الكبري أن هذه التيارات أقحمت نفسها في عالم السياسة بمنطق العقيدة التي هي تعبير عن الموقف الإيماني الصحيح، وبالتالي اعتبروا من يخالفهم مبتدعا لابد من تصحيح إيمانه، وأصبحت المواقف العقدية التي تحمل موضع الإجماع والتصديق المعقود علي القلب هي نفسها التي يتم اتخاذها في عالم السياسة والإدارة ومن يشاركك  العيش في الوطن وإن اختلف معك في العقيدة.

السياسة هي عالم وعلم وممارسة وإدارة وتفكير مختلف تماما عن عالم العقيدة، ودخولك إليه بمنطق رجل العقيدة وحامي التمامية والصفاء العقدي يضعك في مواجهة الآخرين جميعا من أول عامة الناس الذين لا يعرفون أسس منطقك العقدي وحتي المختلفين معك في الدين شركاء الوطن.

وأكبر محنة واجهتها الحالة الإسلامية المعاصرة بجميع تياراتها هي دخولها عالم السياسة بنفس أدوات ومنطق عالم العقيدة، دون إدراك أن عالم السياسة هو عالم الاجتهاد المفتوح حول قضايا ذات طابع إنساني، وهو يدخل في عالم الدنيا وإدارتها والإبداع في مواجهة مشاكلها للناس جميعا وليس فقط لمن يؤمن بعقيدتك وحدها.

السياسة هي تدبير للشأن العام لكل المواطنين، والعقيدة هي اعتقاد داخلي للمؤمنين بتلك العقيدة  وحدهم، واستخدام مناهج العقائد في عالم السياسة يعني أنك ستعبر عن قطاع قليل ممن يوافقك عقيدتك بينما من يخالفونك فيها فستظلمهم.

قيمة العدالة هي جوهر الاتصال بين العقيدة والسياسة، وهي قيمة تشمل الجميع بلا استثناء أو تمييز، ومن ثم فإن عالم السياسة يفترض أن تستحضر قيمة العدالة والمساواة والحرية وأن تجعل عقيدتك حيث إيمانك الداخلي، العقيدة صلة مع الله والسياسة هي بناء لعالم وتدبير للمشترك بينك ومن يختلفون معك في العقيدة والأفكار والبرامج، والدخول لعالمها من منظور العقيدة هو أول أبواب الشر التي تفتحها علي نفسك ومجتمعك.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock