رؤى

أزمة العقل البياني .. ضلالات التأويل وتهافت المقاصد

فى دارسته التحليلية النقدية لنظم المعرفة فى الثقافة العربية وبنية العقل العربى، قسم الدكتور محمد عابد الجابرى المفكر المغربي الكبير تلك النظم إلى ثلاثة أقسام معرفية أو عقول هى: العقل البياني والعرفاني والبرهاني.

تنتمى جل الحركات الإسلامية إلى هذا العقل البيانى، الذي يحكم على الشرع من خلال اللغة، ويضع العقل فى مواجهة الشرع، كما أكد حسن البنا فى أصل من الأصول العشرين لم ينتبه له الكثيرون، حيث كتب يقول:

“والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام، ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع فى فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات”.. هذا النص يؤكد ما ذهب إليه الجابري فى أن “التأويل الذي يشكل المظهر العقلي فى الحقل المعرفي البياني، سيغدو مقيدا بالمواضعة اللغوية كما كانت فى زمن معين، والنتيجة اعتماد اللغة سلطة مرجعية محددة للفكر، فيصبح ما يقوله أهل اللغة بصدد لفظة هو القول الفصل فى المشكلة الفكرية موضوع النقاش، مما يفتح المجال واسعا لتسويد اللغة على الفكر، واللفظ على المعنى، ونظام الخطاب على نظام العقل، والكل بمعنى واحد”. ويتابع الجابري: “تجلى هذا واضحا فى مناقشات المتكلمين لمسألة الإعجاز فى القرآن، حيث جرهم الانشغال باللفظ والنظم فى النص القرآني انشغالا جعلهم يهملون أو يغفلون المقاصد والأهداف، فسقطوا فيما سقط فيه الفقهاء.. لقد وجهوا الاهتمام من حيث لم يقصدوا إلى الألفاظ ونظمها، على حساب الاهتمام بالمعاني وبعديها الخلقي والاجتماعي، فأصبح القرآن ألفاظا ونغما وتوارت إلى الظل معانيه ومقاصده”.

هذه بالضبط نقطة البدء فى خداع الذات لدى جماعة الإخوان، أو بالأحرى عقل مؤسسها حسن البنا الذي مضى على درب الفقهاء ومقاربتهم للقرآن والشريعة، بأن جعلوا اللغة حاكما عليها، وهو ما أكده البنا فى هذا النص الذي ضمنه أصوله العشرين. وكان هذا أول لون من ألوان خداع الذات عن حقيقة الدين ومساراته الصحيحة، التي يتكامل فيها البيان مع العرفان مع البرهان، وعلى أية حال، فهذه أزمة العقل العربي كله والإخوان ليسوا متفردين فى ذلك.

خدع الإخوان أنفسهم ولم يلتزموا حتى بمقولاتهم التأسيسية، صحيح أن أي مقولات تأسيسية تبقى اجتهادا بشريا خاضعا للتأويل والتعديل، بل والتعطيل، لكنهم تعاملوا مع كل مقولاتهم التأسيسية باعتبارها ثوابت الإسلام، لا ثوابت الإخوان، ما فاقم عزلتهم الفكرية إلى حد الانفصال حتى عما أحرزته أطراف الحركة فى المغرب العربي، الذين انطلقوا من أرضية المقاصد، فتحلوا بمرونة لافتة مقارنة بتكلس الحالة المشرقية.

 

خدعوا أنفسهم حين لم يلتزموا بكثير من المقولات التأسيسية، وبالتالي خدعوا الآخرين لأنهم خالفوا ما اصطلحوا على تعريفه بثوابت الفكرة. من ذلك أنهم كانوا حريصين على عدم التورط فى مهمة الحكم قبل الاستعداد لها بما تتطلبه، وأكد البنا هذا المعنى بحسم: “إن الإخوان المسلمين أعقل وأحزم من أن يتصدوا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذه الحال، فلابد من فترة تنتشر فيها مبادئ الإخوان ويتعلم الشعب كيف يغلب المصلحة العامة على مصالحه الشخصية”.. فهل حدث ذلك؟ .. اعتسفت الجماعة الطريق وحرقت مرحلة المجتمع وقفزت للسلطة، ولم يكن المجتمع قد تشبع بأفكارهم وبالتالي خالفوا ما تعهدوا به ليس فقط سياسيا بل وفكريا، ولطالما كان الإخوان يرددون منذ العام 2008 بعد عامين من قفز حماس على السلطة في غزة أننا لن نخطأ خطأ حماس، وكانت النتائح والسلوك خير شاهد على مخالفة القول للفعل.

حاول البنا أن يطرح نفسه كهيئة إسلامية جامعة، ولم يفرق بين شمولية المفهوم والوظيفة، فمضت جماعته فى كل الساحات والمساحات لتؤدي كل الأدوار السياسية والاجتماعية والدعوية، وتفشل فى كل الساحات.

أحمد بان

كاتب و باحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock