رؤى

المنهج الوسطي.. دور الأزهر في النهضة الإندونيسية (1 – 2)

على مدى العقدين الماضيين، برزت إندونيسيا – الدولة الرابعة على العالم من حيث التعداد السكاني، والأولى من حيث الغالبية المسلمة – كأحد الاقتصادات الأسرع نموا في آسيا والعالم، مع نجاحها في قطع خطوات واسعة نحو بناء دولة ديمقراطية حداثية تقوم على التسامح الإثني والثقافي، في إطار يتبنى قراءة عصرية ناضجة لوسطية الإسلام وتعاليمه السمحة.

في هذا السياق صدرت في 9 يوليو 2018 مقالة بحثية بعنوان “Embracing Moderation: Egypt’s Al-Azhar and Indonesia’s Pesantren” (تبني الاعتدال: الأزهر والمدارس الإسلامية الإندونيسية)، للباحث فريد ساينونج، الباحث المقيم بجامعة فيكتوريا ويلينجتون، نيوزيلندا.

تأتي الدراسة ضمن سلسلة “Indonesia and the Middle east: Exploring Connections”، (إندونيسيا والشرق الأوسط: استكشاف الروابط)، وتسعى إلى إبراز الدور المحوري الذي اضطلعت به جامعة الأزهر في إرساء دعائم النهضة الإندونيسية، وذلك من خلال بحث العلاقات المؤسسية التي تربط الأزهر الشريف بالعديد من المؤسسات الإسلامية المحلية في إندونيسيا – لا سيما تلك الموجودة في مقاطعة سولاوسي الجنوبية – وفي مقدمتها “دار الدعوة والإرشاد” و”الأسعدية”.

تمثل كلتا المؤسستان قلب التعليم الديني الإندويسي الذي يضخ الطلاب من مقاطعة سولاسي الجنوبية إلى الأزهر. فحتى نهاية القرن العشرين كان طلاب مقاطعة سولاوسي الجنوبية يمثلون النسبة الأكبر من طلاب الأزهر الوافدين من إندونيسيا، مقارنة بالمقاطعات والأقاليم الأخرى.

وتؤكد الدراسة تأثر قطاع عريض من الإسلام الإندونيسي بصورة مباشرة بالتأويلات المصرية للإسلام، التي خرجت من رحم الأزهر الشريف. كما تشير إلى الخدمات الجليلة التي قدمها الأزهريون إلى المجتمعات المحلية في إندونيسيا على مدى ما يزيد على قرنين من الزمان.

لم ينحصر التاثير الأزهري – وفقا للدراسة – في الفضاء الديني فحسب، وإنما امتدت تأثيراته بقوة إلى السياسة الإندونيسية، حيث شكلت مصر التربة الخصيبة التي احتضنت بذور الفكر القومي الإندونيسي. ففي الوقت الذي هيمن فيه الخطاب القومي على جميع ألوان الطيف السياسي والشعبي المصري، كان الطلاب الإندونيسيون الذين يدرسون في جامعة الأزهر يتفاعلون بعمق مع هذا الخطاب، وينقلون أصداءه بقوة إلى جاكرتا.

وتورد الدراسة قائمة مطولة برموز النهضة الإندونيسية الذين عايشوا هذه الأجواء وتشبعوا بإرهاصاتها، من أمثال محمد رشيدي (1915 – 2001)، وزير الشئون الدينية، وهارون ناسونيون (1919 – 1998)، رئيس جامعة شريف هداية الله الإسلامية في جاكرتا، وقريش شهاب (1944)، وزير الشئون الدينية وسفير إندونيسيا في مصر، وعبد الرحمن وحيد (1944 – 2009)، رئيس إندونيسيا السابق، وعلوي شهاب (1946)، وزير الخارجية، وغيرهم.

محمد رشيدي

واضطلع أزهريون أندونيسيون آخرون أيضا بأدوار مهمة في تطوير منظمات جماهيرية إسلامية كان لها أبلغ الأثر في صبغ الحياة الإندونيسية، مثل جمعية “المحمدية”، التي تأسست في عام 1912، وجمعية “نهضة العلماء”، التي تأسست في عام 1926.

إضافة إلى ذلك، أثرى أزهريون أندونيسيون الحركة الأدبية في إندونيسيا، مثل توان جوررو باجانج، وموشليس هنافي، وإيفا نيسا. ولمع من الأزهريين الإندونيسيين أسماء قدمت روايات عبرت عن الهوية الإندونيسية بإبداع وعمق، مثل حبيب الرحمن الشيرازي، وعبد الرحمن المشري، وغيرهما.

وعلى جانب النضال ضد المستعمر الهولندي، قدم الطلاب الإندونيسيون في مصر لوطنهم خدمات جليلة، كان أبرزها مساعدة بلادهم على الحصول على اعتراف مصر رسميا باستقلال إندونيسيا.

فبمجرد صدور إعلان الاستقلال في إندونيسيا في 17 أغسطس 1945، قام الطلاب الإندونيسيون في مصر بتأسيس جمعية “استقلال إندونيسيا”، التي أذاعت نبأ الاستقلال إلى الشعب المصري من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية، وهو ما أدى إلى نشر إعلان الاستقلال كاملا في صحيفة الأهرام في سبتمبر 1945.

وفي 22 مارس 1946 اعترفت وزارة الخارجية المصرية بجمعية استقلال إندونيسيا، واعتمدتها بشكل رسمي كممثل عن حكومة بلادها المستقلة. وفي 15 مارس 1947ألقى أحد مساعدي الملك فاروق، نيابة عنه وعن الجامعة العربية، خطابا يعلن فيه اعتراف مصر والجامعة رسميا باستقلال إندونيسيا.

وبعد ثلاث سنوات، بدأت سفارة إندونيسيا في القاهرة أعمالها في 25 فبراير 1950، وكان أول سفير لأندونيسيا في القاهرة هو محمد رشيدي، أحد خريجي جامعة الأزهر المصرية.

لم تكن هذه الشبكة من الرموز النهضوية قائمة على العلاقات الشخصية فحسب؛ فقد كانت بعض المؤسسات الوطنية الإسلامية في إندونيسيا تتمتع بروابط مؤسسية وعلاقات تعاون وثيقة مع الأزهر الشريف في مصر مثل تلك الموجودة في جاوة وسومطرة وكاليمنتان ونوسا تينجارا. وتشهد الفترة الآنية دعم هذه الروابط عبر قرابة 3000 طالب إندونيسي يدرسون حاليا بجامعة الأزهر.

وترى الدراسة أن انتقال التعليم الديني الإسلامي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من بلاد الحرمين إلى القاهرة لا يعني بحال أن مؤسسة الحرمين لم تعد منطقة جذب لطلاب العلوم الشرعية، وإنما يشير فقط إلى أنها لم تعد قبلة التعليم الديني الوحيدة – أو حتى الأولى – التي يقصدها الطلاب الإندونيسيون.

وتضيف الدراسة: “يدل هذا التحول أيضا على أن القاهرة – التي يمثل أزهرها أحد أكثر الهيئات الدينية تأثيرا في العالم الإسلامي على وجه الخصوص، والعالم بوجه عام – قد غدت المنارة الأهم للعلوم الشرعية، ثم تأتي من بعدها بلاد الحرمين والمغرب واليمن وسائر مراكز الإشعاع الديني”.

طوال هذه الفترة، مثلت “البيسانترين” (المدارس الداخلية الإسلامية في إندونيسيا) دائما المحضن الأساس الذي تخرج منه جميع الطلاب الإندونيسيين الذين أتموا دراساتهم الشرعية في الأزهر الشريف. ونظمت هذه المدارس برامج تدريبية لإتقان العامية المصرية لتمكين طلابها من متابعة المحاضرات في جامعة الأزهر؛ حيث اتجه بعض الأساتذة إلى استخدام اللهجة العامية – عوضا عن الفصحى – في محاضراتهم  باعتبارها الأيسر والأقرب إلى الطلاب المصريين، خاصة القادمين من بيئات ريفية. لكن الدكتور أسامة العبد، رئيس جامعة الأزهر آنذاك، أصدر قرارا في نهاية عام 2011 حظر فيه استخدام العامية المصرية كبديل عن العربية الفصحى في جميع كليات الجامعة.

المدارس الداخلية الإسلامية في إندونيسيا “بيسانترين”

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock