منوعات

المنهج الوسطي.. دور الأزهر في النهضة الإندونيسية (2 – 2)

في مقالتها المنشورة في عام 1996 بعنوان A Profile of an Indonesian Azhari living in Cairo (لمحة عن حياة أزهري إندونيسي يعيش في القاهرة)، ترسم منى أباظة صورة لإندونيسي أزهري تعود جذوره إلى مقاطعة سولاوسي الجنوبية.

تدور المقالة حول كفاح “إبراهيم” – وهو اسم مستعار استخدمته الكاتبة للإشارة إلى بطل قصتها – من أجل تحصيل العلم الشرعي منذ أن كان حدثا صغيرا يتردد على “البيسانترين” (المدارس الداخلية الدينية في إندونيسيا). ثم تنتقل المشهد إلى المحطة التالية والأهم، بعد ذهابه إلى القاهرة والتحاقه بجامعة الأزهر حتى حصوله على درجة الدكتوراه.

ورغم عدم إبداء أباظة أية أسباب لاختيارها شخص “إبراهيم” تحديدا للقيام بدور البطولة في مقالتها، إلا أن أهمية هذه المقالة تكمن بالأساس في إبراز الدور المحوري الذي اضطلعت به هذه المقاطعة، أكثر من غيرها، في أن تكون “تربة خصيبة لنبت صالح  استغلظ واستوى على سوقه في الأزهر، حتى إذا ما عاد إلى بلاده قادها بحكمة ورشاد على طريق النهضة”.

وتلفت دراسة Embracing Moderation: Egypt’s Al-Azhar and Indonesia’s Pesantren” (تبني الاعتدال: الأزهر المصري والمدارس الإسلامية الإندونيسية)، للباحث فريد ساينونج، الباحث المقيم بجامعة فيكتوريا ويلينجتون، بنيوزيلندا، إلى أن جذور الغالبية العظمى من الطلاب الإندونيسيين في القاهرة كانت تعود بالأساس إلى سومطرة. إلا أن هذه الديموغرافيا شهدت تغيرا جذريا مع بداية الألفية الجديدة، حيث شكل الطلاب القادمون من مقاطعة سولاوسي الجنوبية الشريحة الأكبر بين الطلاب الإندونيسيين في الأزهر.

الباحث فريد ساينونج، جامعة فيكتوريا ويلينجتون، بنيوزيلندا

وتشير الدراسة إلى أن تزايد أعداد الطلاب القادمين من “البيسانترين” الجنوبي يعكس بجلاء الاهتمام المتزايد الذي يوليه العلماء وأولياء الأمور في مقاطعة سولاوسي بإرسال طلابهم وأبنائهم لتحصيل العلم الشرعي في أروقة الأزهر الشريف باعتباره المؤسسة الأجل في التعليم الديني في العالم.

وفي مصر، شكل أبناء سولاوسي رابطة عُرفت بـ “الوئام العائلي لأبناء سولاوسي” (Kerukunan Keluarga Sulawesi) جمعت تحت مظلتها جميع طلاب الأزهر المنحدرين إلى مصر من هذه المقاطعة، سواء كان مجيؤهم إلى القاهرة عبر بوابة “مكافآت التفوق”، التي أقرها الأزهر في شكل منح دراسية، أو عن طريق الابتعاث من قبل “البيسانترين”، أو حتى من خلال وكلاء غير شرعيين.

تشتهر مقاطعة سولاوسي الجنوبية بمؤسستين بارزتين تتبعان قطاع “البيسانترين”، وهما مؤسسة “الأسعدية” في سينغانغ، وتضم أكثر من 462 فرعا تنتشر في جميع أنحاء إندونيسيا، بدءا من الروضة، ومرورا بالمرحلة الثانوية، ووصولا إلى المستوى الجامعي، و”دار الدعوة والإرشاد” في مانغوسو وباري باري، التي يزيد عدد مدارسها في جميع أنحاء إندونيسيا على  1100 مدرسة، إضافة إلى 15 جامعة، وتمتد فروعها إلى سنغافورة وماليزيا.

وتشير الدراسة إلى أن الجذور الفكرية لجميع علماء سولاوسي الذين درسوا بالأزهر تعود إلى إحدى هاتين المؤسستين.

وعن تطور العلاقة بين الأزهر ومؤسسات التعليم الديني في إندونيسيا، تلفت الدراسة إلى أن الزيارة الرسمية التي قام بها مؤسس “دار الدعوة والإرشاد”، آمبو دالي، إلى شيخ الأزهر، في عام 1970، كان لها أبلغ الأثر في تدشين اتفاقات تعاون مع الأزهر أثًرت وأثرت التعليم الديني والمسيرة النهضوية الإندونيسية بوجه عام.

في هذه الزيارة، وافق الشيخ محمد الفحام – شيخ الأزهر آنذاك – على تخصيص منح دراسية لعدد من خريجي “دار الدعوة والإرشاد”، وإرسال أساتذة ومحاضرين للتدريس في معاهدها وجامعاتها، على أن يتكفل الأزهر بنفقات سفر ورواتب المبتعثين، بينما تتكفل “الدار” بنفقات الإقامة والوجبات والانتقالات المحلية.

الشيخ محمد الفحام

كانت طبيعة الحياة والعمل في إندونيسيا – لا سيما في مراحلها الأولى –  أمرا بالغ المشقة على علماء الأزهر الشريف؛ إذ كان عليهم ابتداء أن يتكيفوا مع ثقافة محلية لم تألفها طباعهم. إضافة إلى ذلك، واجه المبتعثون الأزهريون صدامات عنيفة مع العقل الإندونيسي الذي تشكل وعيه على ’إسلام محلي‘ يناقض ’الإسلام الأزهري‘ متعدد الروافد والمشارب. وتبرز الدراسة القضايا الجندرية كإحدى ركائز هذا الصدام الحضاري. لكن هذه الفوارق لم تلبث أن تضيق وتذوب بمرور الزمن وبكثرة الاختلاط في قاعات الدرس ومجالس العلم، وفي الشوارع والأسواق.

في هذا السياق تستشهد الدراسة بآراء عدد من خريجي المدارس الدينية الذين تتلمذوا على يد المشايخ الأزهريين وتأثروا بهم. وتخلص إلى أن الحركة من أجل التكيف وإذابة الفوارق الثقافية كانت دائرية، فهي تسير من ناحية العلماء صوب المجتمع الذي حلوا به، ومن المجتمع تجاه العلماء الذين أرادوا أن ينهلوا من علمهم.

 ويؤكد صفي الدين زُهري، أحد خريجي “دار الدعوة والإرشاد”، أن تجربة الأزهريين في إندونيسيا كانت “ناجحة على كل المستويات”. فقد وجدوا سعادة بالغة في تجربة العمل والعيش في إندونيسيا، كما ساعدت أنشطتهم الدؤوبة وجهودهم الحثيثة وكثرة تنقلاتهم التي اقتضتها ظروف العمل على استيعاب الكثير من القضايا الثقافية التي كانت مثار صدام خلال فترة معينة.

إضافة إلى ذلك، أدت علاقات التراحم بين الشيوخ الأزهريين المصريين وطلابهم الإندونيسيين إلى امتداد التأثير والتأثر حتى إلى ما بعد الانقطاع الظاهري للعلاقة. وتحكي الدراسة عن البروفيسور قريش شهاب تأثره العميق بشيخه الأزهري الذي تولى الإشراف على بحثه للدكتوراة (الشيخ عبد الحليم محمود)، وكيف أن العلاقة الإنسانية بينهما صمدت أمام تباعد المسافات وكثرة المشاغل حتى وفاة الشيخ في 17 أكتوبر 1978.

الشيخ عبد الحليم محمود

ويصف شهاب الشيخ عبد الحليم محمود بأبيه الروحي “احتضنني وأخذ بيدي طوال فترة دراستي بالأزهر … لم يكن يستنكف على قدره ومقامه أن يضاحكني ويمازحني حتى خارج أسوار الجامعة”. كما يؤكد التأثير العميق الذ تركه الشيخ الجليل على مسيرته الأكاديمية وحياته بوجه عام.

البروفيسور قريش شهاب

كانت الزيارة الرسمية التي قام بها مؤسس دار الدعوة إلى مشيخة الأزهر في عام 1970 قد أدت أيضا إلى معادلة مناهج “دار الدعوة والإرشاد” واعتمادها من قبل الأزهر، وهو ما سمح لخريجيها الحاصلين على درجة البكالوريوس بالالتحاق بالصف الثالث بالكليات الأزهرية ودراسة سنة إضافية لإتمام الدراسة الجامعية الأزهرية.

وعن تطور العلاقات المؤسسية بين الأزهر الشريف والمؤسسات الدينية العليا في إندونيسيا، تلفت الدراسة إلى توالي اللقاءات والمقابلات الرسمية الهامة بين قيادات جامعة الأزهر ونظرائهم في وزارة الشئون الدينية الإندونيسية، والتي أسفرت عن تولي الأخيرة مسئولية تطبيق نظام المعادلة في نهاية تسعينيات القرن الماضي، وخضوع المدارس الدينية الإندونيسية لاختبارات تنظمها الوزارة كل عام لضمان كفاءة وجودة التعليم الديني بالبلاد.

وتخلص الدراسة إلى أن الأزهر الشريف قدم – على امتداد تاريخه – نموذجا متفردا كمؤسسة تعليمية متخصصة في العلوم الشرعية، ولم يؤثر تغيير المناهج وسياسات التعليم الأزهرية على الشغف الإندونيسي بالتعليم الأزهري، “بل سرعان ما بادرت مؤسسات التعليم الديني في إندونيسيا إلى تلبية نداء التغيير من أجل مواكبة المؤسسة الأم”.

ففي بداية تسعينيات القرن الماضي – على سبيل المثال – قامت جميع فروع “الجامعة الإسلامية الحكومية” (Universitas Islam Negeri) بنقل قسمي التفسير والحديث من كلية الشريعة إلى كلية العقيدة اقتداء بما فعله الأزهر في مصر. كما تخلص الدراسة إلى أن البصمة التي تركها الأزهر على الحياة في إندونيسيا لم تنحصر داخل حدود التعليم الديني فحسب، وإنما امتدت لتشمل الفهم العام للدين من حيث كونه رسالة إنسانية شاملة تتفاعل مع الحياة بكل صروفها ومستجداتها.

فتيات إندونيسيات يستقبلن شيخ الأزهر بالسلام الوطني المصري

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock