رؤى

دعاة الفضائيات.. كهنوت نصنعه بأيدينا

يقع البعض، وهم كثير، في خطأ إطلاق صفة “رجل دين” على كل من ارتدى الزي الأزهري، أو جلس على منصة الحديث إلى العوام في أمور دينهم، أو خرج علينا من فضائية من الفضائيات التي راجت في هذه الأيام. وللحق فإن مثل هذه الصفة لا وجود لها في الثقافة الإسلامية، وهي صفة أسبغت على البعض من المشايخ وطلاب العلم الشرعي “كهنوتية” ليست من الإسلام في شيء.

كثيرٌ من البسطاء يولون وجوههم شطر كل من هبَّ ودبَّ ليسألوهم في قضايا فقهية، ويصل السؤال أحياناً إلى مسائل دنيوية معاشية، لا يفقه فيها المسئول أكثر مما يفقهه السائل، وليت الأمر اقتصر على هؤلاء البسطاء، بل تعداهم إلى كثيرين ممن حصلوا على شهادات عليا في تخصصاتهم العلمية أو النظرية، نتيجة لهذا الانفصال الذي وقع بين تدريس العلوم الحديثة وتحصيل العلوم الشرعية، حتى وجدنا دكاترة ومهندسين وأطباء يسألون عن أمور دينهم هؤلاء الذين ارتدوا الجلباب أو أطلقوا لحاهم وحصلوا من علوم الشرع بعض قشورها، أو ساعدتهم حدة ذاكرتهم على حفظ وترديد ما في الكتب كأنهم أسطوانات مدمجة تنطلق في إذاعة ما سطر عليها من مواد فيها الغث وفيها السمين، يرددون ما فيها من دون فهم أو بمفاهيم مغلوطة في كثير من الأحيان.

بعضُهم يفتي في الزواج والطلاق كما يفتي في السياسة والاقتصاد، ويتحدث عن المخدرات كما يخوض في علم الحشرات من دون علم ولا تأهيل ولا سلطان مبين، وقليلٌ منهم من يقول: “لا أدري”، مع علمهم بمأثور القول الصحيح: “من فقه العالِم أن يقول لا أعلم”، وربما يرددون كثيراً القول المنسوب لبعض الصحابة والتابعين بأن “من قال لا أدرى فقد أفتى”، وقد انصبت فتواه هنا على تعليم السائل بأن المسئول لا يعلم حكم المسألة، فليسأل غيره ممن يتقنها ويحسن الفتيا فيها.

حتى هؤلاء الذين يقرأون في كل شيء هم على الحقيقية لا يتقنون أي شيء، وقد كان لي تجربة شخصية مع أحد العلماء الكبار سألته عن شيء كنت أبحت عن إجابة شافية حوله فقال لي الرجل بكل تواضع العلماء إذا شئت الحقيقة فهذا شيء لا يدخل فيما أتقنه، لكني سوف أساعدك على الرجوع إلى ما أظنه يعطيك بعضاً مما تبحث عنه، وذكر لي ثلاثة مراجع لكل منها موقف مختلف عن الأخر، وأحدها جمع كل ما قيل حول المسألة، وأستطيع أن أقرر بكل يقين بأني تعلمت من هذه التجربة ما لم يكن متاحاً لي لو أن الشيخ اقتصر على ترديد بعض الجمل المحفوظة التي تتناول الموضوع.

كانت تلك الواقعة ـ وغيرها مع علماء آخرين ـ هي التي كسرت عندي صنم “الكهنوت” حتى مع من أحببت من هؤلاء المشايخ الذين رفضوا عن علمٍ وعن حسنِ تدين “صنمية” ذلك الكهنوت تحت مسمى رجال الدين.

العالم ليس بالعمامة ولا بالزي، وليس في الإسلام كهنوت، إنما ابتدعه هؤلاء الذين لا يريدون أن يستخدموا عقولهم فيما خُلقت له، فيجعلون كلام الدعاة بديلاً عن تشغيل عقولهم، ويقولون بجرأة على الحق لا مثيل لها: “اربطها في رقبة عالم واطلع سالم”، فراجت من يومها صناعة ذلك الكهنوت المقيت، أن تدعي فئة ضيقة من الناس احتكار فهم الدين وتفسيره ومن ثم احتكروا أو حاولوا احتكار مهمة تقديم الدين (الذي هو مراد الله من العباد) للناس، ووصل هذا الاحتكار ببعضهم إلى محاولة فرض موافقتهم على كل تصرفات الناس حتى تكون بزعمهم موافقة لمراد الله!.

جناية مثل هؤلاء المتصدرين للحديث باسم الدين لا تقل عن جناية بعض الذين يخلقون منهم كهنوتاً جديداً يُعبد من دون الله، وبعضهم لا يقول رأياً إلا إذا رجع إلى شيخه، حتى لو تعلق الأمر بالعلاقات الاجتماعية، أو بشأنٍ عامٍ لا يُدركه الشيخ، ولا يعرف عنه الداعية إلا القليل الذي لا يُغني ولا يُسمن من جوع.

دخل عليَّ في مكتبي شاب من أبناء الجيران (كان يصحبني وهو صغير إلى المساجد التي حولنا لصلاة الفجر) فرأى كتاباً عليه صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فنظر إليَّ ممتعضاً وهو يقول بيقين كامل: “هذا الصنم الذي تعبدونه من دون الله”.

مثل هؤلاء سلَّموا عقولهم لمن سمموها، أو لعبوا فيها كما شاء لهم الجهل والتجهيل، تسألهم عن شيءٍ فيقولون: “يقول الشيخ”، تسألهم وماذا تقول أنت، ها أنت سمعت الشيخ فهل أعملت عقلك فيما يقول؟ كأنهم قطعوا عليهم الطريق على أي تفكير، أو كأنهم استبدلوا عقولهم بعقول مشايخهم، بحجة أن الشيخ أفتى، وبالتالي فالموضوع منتهي، فإذا عرضت عليه رأيا لعالم آخر مناقض للرأي الأول يتجاهلونه بحجة أن شيخه من “العلماء الربانيين” وتلك صورة من أسوأ صور الكهنوت المرفوض عقلاً وشرعاً.

وحين اختلط حابل العلماء بنابل الجهال صار الكل يخوض في الدين بالسؤال وبالإجابة، وكما أنك لن تعدم أجوبة تناقض العقل ولا تستقيم مع الفطرة السليمة، ولا تتأسس على علمٍ صحيح، فإنك لن تعدم أسئلة أقل وصف لها أنها ساذجة أو متنطعة. وقد كان لصديقي الراحل الدكتور وائل عزيز يرحمه الله (وهو الذي جمع بين علوم الشرع والعلوم الحديثة، وحصل في كلٍ منها على الدكتوراه) هواية متابعة برامج الإفتاء على القنوات المختلفة، وقد كتب شهادته حولها فقال: في أحيان كثيرة تكون الأسئلة المطروحة بعيدة عن تخصص الشيخ الموجه إليه السؤال. ولكنه في كل الأحيان يجيب، بل وبإسهاب وشروح ما أنزل الله بها من سلطان، يعتمد فيها على مهارته اللغوية وقدراته الخطابية أكثر من اعتماده على علمٍ حقيقي أو دراسةٍ متخصصة.

يقول الدكتور وائل عزيز: رأيت شيوخاً يجيبون على أسئلة من نوع: ابني عمره خمس سنوات وهو كثير الحركة ويكسر الأدوات المكتبية ويعتدي بالضرب على أخيه الأكبر، ماذا أفعل معه؟، وسؤال: ابني حصل على مجموع كبير في الثانوية العامة ويريد دخول كلية الحقوق رغم أنه يمكن أن يدخل كلية الطب، بماذا تنصحنا؟، وسؤال: لقد وجدت على تليفون زوجي الخاص رسائل من فتيات بها كلمات غزل ونكات خارجة، ماذا أفعل معه؟، وسؤال: ابنتي فتاة في السادسة عشرة من عمرها وجدتها تدخن وتشاهد مجلات جنسية، ماذا أفعل؟

مصيبة هذا الكهنوت أنه يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وصار بعضهم نجوماً بينما توارت نماذج العلماء في كل التخصصات، وتحول دور الداعية الفضائي من الدعوة والإرشاد وحث الناس على محاسن الأخلاق وتوعيتهم بالقيم الدينية الرفيعة إلى أن صار الواجد منهم في موقع ولي الأمر يقضي في شؤون الناس ويحكم على تصرفاتهم وتحول المشاهدين إلى رعية ومريدين.

المصيبة الأكبر لهذا “الكهنوت” تتجسد في إلغاء العقل وتغييب ملكة التفكير حتى وصل الأمر ببعض هؤلاء إلى الإفتاء بتحريم الكمبيوتر، وقد قلت لأحدهم مرة، هذه أدوات يا شيخنا مثل السكينة وظيفتها الأصلية في المطابخ هي تسهيل التقطيع ويمكن أن يستخدمها البعض في القتل، والأدوات لا تحرم ولا تحلل، إنما يحرم أو يحلل ما يفعله بها البشر، ورغم أنه وافقني إلا أن كثيراً من أتباعه لا يزالون يحرمون الكمبيوتر ولم يسمحوا بدخوله إلى بيوتهم.

يتشدد بعضهم فيتشدد الناس، ويتساهل بعضهم فيتساهل الناس، ولا شك أن هناك حكمة وراء هذه الأخبار التي تتابع عن بعض هؤلاء الدعاة الذين ملأوا الشاشات واقتحموا العقول وتقلبوا بين الرأي ونقيضه، وفضحتهم أعمالُهم التي لا تنسجم مع أقوالهم، ولعلي لا أكون متجاوزاً الحق إذا قلت إن تلك الحكمة تريد أن تقول لنا: اسقطوا هذا الكهنوت، فلا كهنوت في الإسلام، والأصل أنه لا رجال دين في الإسلام، وقبل ذلك وبعده اعملوا عقلكم في كل ما تسمعون، ولو كان القائل صاحب أطول لحية في هذا العصر، أو صاحب أكثر البرامج مشاهدة على الفضائيات

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock