رؤى

لا تصلوا من أجل القاتل

أحدث مقتل الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير الأنبا مقار بوادي النطرون هزة عنيفة في المجتمع المصري بمسيحييه ومسلميه.

الحادث الذي انتهى باغتيال الأنبا إبيفانيوس، ليس لنا ولا لغيرنا الخوض فيه لأنه منظور الآن أمام جهات التحقيق التي أصدرت بيانًا رسميًا جاء فيه: “تواصل نيابة استئناف الإسكندرية التحقيق في أحداث مقتل الأنبا إبيفانيوس حيث أدلى الراهب المشلوح أشعياء المقارى باعترافات تفصيلية أمام ضباط المباحث ونيابة استئناف الإسكندرية، معترفًا بمسئوليته عن قتل إبيفانيوس بالاشتراك مع الراهب فلتاؤس المقارى الذي يعالج حاليا بمستشفى مايكل أنجلو بالزمالك عقب محاولته الانتحار”.

الهزة العنيفة التي أشرت إليها يمكن تسميها بالهزة الثقافية، فبعيدًا عن مجريات التحقيق الذي لم تعلن نتائجه الرسمية بعد، يجب علينا التوقف عند تفاعلات الحادثة غير المسبوقة.

ظهر واضحًا استنكار عوام المجتمع لتلك الحادثة، وهذا الاستنكار يعد من محامد الشخصية المصرية التي لم يلحق التخريب جذرها بعد، بفضل الله ثم بفضل نضالها ومقاومتها لكل عوامل التخريب التي تتكاثر عليها.

فلتاؤس المقارى، أشعياء المقارى

فريق ضخم من المسيحيين والمسلمين تعامل مع الحادث بفطرته المستقيمة فقال: هذا حادث اغتيال عن عمد وقصد، فلنترحم على الضحية ثم ننتظر نتائج التحقيق، ثم نوجه دعوة للكنيسة بوصفها مؤسسة مصرية عريقة ومهمة جدًا لإعادة ترتيب بيتها من داخلها، لأن الحادث أكد أن هناك خللًا ما يستوجب العلاج العاجل العادل.

في مواجهة وضوح موقف العوام كان موقف بعض النخبة مرتبكًا جدًا فقد رأينا فريقًا لا يستهان به يدعو للصلاة من أجل القاتل!.

تلك الدعوة العجيبة، بل المريبة، هي ما عنيته بالهزة الثقافية، ولا أريد وصفها بالهزة “العقائدية”. منذ متى يصلي المصريون من أجل رجل اعترف بأنه قتل عن عمد وسبق إصرار؟.

أي حديث عن خصوصية الحادثة هو حديث أفك لا أكثر ولا أقل، فالدير أو المسجد أمام القانون مجرد مبنى، والقاتل مواطن وكذا القتيل، وهناك قانون عقوبات تنظر الجرائم وفق نصوصه، وعلى ذلك فالحديث عن الخصوصية هو قنبلة دخان لصرف الأنظار عن كارثة ضربت المجتمع كله.

مَنْ أين جاء دعاة الصلاة بدعوتهم المريبة؟ لقد طالعوا كغيرهم حوارًا قصيرًا جدًا أجراه الصحفي محمود العجمي مع الأنبا يؤانس أسقف أسيوط ونشره موقع اليوم السابع. سأله الصحفي: ما تعليقكم على واقعة مقتل الأنبا إبيفانيوس التي تشغل الرأى العام فى مصر؟ فقال الأنبا يؤانس: “الأحداث الجارية حاليا نصلي لها من قلوبنا، وندعو ربنا بأن يعطى الحكمة لقداسة البابا تواضروس الثاني، وأنا أقول إنها سحابة صيف ونصلي من أجل هذه المحنة، وهي محنة عابرة سوف تعبر، ويجب علينا أن نصبر شوية لحد ما كل حاجة تتضح للجميع، للأسف الناس مستعجلة علشان تعرف الحقيقة، فأنا أدعوهم للصلاة والصبر إلى أن تصدر الكنيسة بيانا، رسالتي هي الصلاة والصبر».

انتهى كلام الأنبا يؤانس فتلقفه الذين يزعمون لأنفسهم درجة من الإنسانية والرحمة تفوق تلك التي يتمتع بها مجتمعهم، فتعسفوا في تأويل كلام الرجل وفي تحميله فوق ما يحتمل، فليس في إجابته أدنى إشارة لصلاته من أجل القاتل. كلام الرجل واضح جدًا وهو يتحدث عن عموم الحالة وليس عن خصوص الواقعة.

وبعد تعسفهم في تأويل كلام الأنبا يؤانس، نبشوا الأناجيل حتى وقعوا على آية جاءت في إنجيل متى على لسان سيدنا المسيح، نصها يقول: “وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ”.

تشبثوا بتلك الآية وفق تفسيرهم لها تشبث الغريق بطوق النجاة وراحوا يطلقون الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للصلاة العلنية من أجل القاتل.

إذا قلت إن هذا الفريق من المسيحيين والمسلمين قد “تدعشن” هل أكون مخطئًا؟ داعش وأخواتها من فرق القتل والإرهاب التي تزعم الإسلام لا تفعل أكثر من هذا، تأتي بآية وتنتزعها من سياقها وتفسرها كما شاء لها هواها ثم تتخذها ركيزة وقاعدة فقهية تمارس تحت حمايتها أخس أنواع القتل.

هؤلاء صنعوا صنيع داعش معكوسًا، داعش تقتل وهؤلاء يرحمون. النتيجة في الحالتين واحدة وهي ضياع حقوق المجتمع والدولة.

إن منطق هؤلاء آية من آيات التواء، فهم يبررون موقفهم بأنهم ضد أحكام الإعدام من حيث المبدأ. هل ذكر أحد سيرة الإعدام؟ ثم هل قال القضاء كلمته النهائية حتى يتكلم المتكلم منهم عن رفضه للإعدام؟.

ثم بعد أن يسرفوا في إعلان رفضهم لإعدام لم يتحدث عنه أحد يخرقون في المجتمع خرقًا جديدًا، يقولون: باب التوبة مفتوح. هل قال أحد أن باب التوبة قد أغلق؟ ثم ما علاقة التوبة بحادث جنائي دفع رجل أعزل حياته ثمنًا له؟.

التوبة من أفعال القلوب لا الجوارح والذي يقبلها أو يرمي بها في وجه فاعلها هو الله عز وجل وحده لا شريك له. نحن أمام حادثة قتل عمد ولسنا أمام صلاة في محراب، فكل تعاطف مع معترف بالقتل هو من تلبيس إبليس ومن صنع جماعة في قلوبهم مرض.

إضافة للفريقين السابق ذكرهما ظهر فريق ثالث يستهجن علانية قيام الصحفيين المسلمين بتغطية الحادث إخباريًا، بدعوى أن الحادث شأن مسيحيي داخلي.

هل أعلن أحد ـ ولم يصلنا الخبر ـ أن الأديرة المقامة على أرض مصر والتي بناها مصريون ويسكنها مصريون قد تم إعلانها دولة ذات سيادة وعلم؟ الأديرة والكنائس مثل المساجد، جميعها مؤسسات مصرية يجب أن تخضع تمام الخضوع لأحكام القانون، أما الكلام خارج هذه الرؤية المركزية فهراء لن يجلب إلا المزيد من تخريب الشخصية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock