رؤى

الشبكات الاجتماعية العنيفة.. مدخل للفهم (2-2)

كانت آمال الحركات الاجتماعية الإسلامية أن تبني تنظيما كبيرا يكون أداتها لإحداث عملية تغيير منظمة تحقق أهدافها في الانتقال نحو أملها الكبير وهو إقامة الدولة الإسلامية. من هنا قصد البنا المرشد الأول لجماعة الإخوان تأسيس تنظيم كبير يبدو وكأنه بديل عن الدولة القائمة وأداة لتحقيق أهدافه في ما أطلق عليه أستاذية العالم.

كما أسس تنظيم القاعدة بعد تبلور أهدافه واستراتيجيته قرب نهاية التسعينيات تنظيما كبيرا له مركز وفروع تتلقي منه الأوامر  والتعليمات لتنفيذها، بيد أنه انتقل بعدها من صيغة التنظيم المركزي تحت ضغط التعقب من الولايات المتحدة الأمريكية عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، إلي شبكة تتراجع فيها الصيغة المركزية لصالح ما عرف بـ”أخوات القاعدة”، أي التنظيمات المحلية في المناطق التي تنشط بها وتحمل فكر التنظيم دون أن تكون مرتبطة مركزيا به، ومن ثم أصبحت الشبكات المحلية هي الفاعلة والمؤثرة في التخطيط والتنفيذ وحتي توفير الموارد المالية والتجنيد.

ومع ظهور تنظيم داعش منشقا عن القاعدة ومتبنيا إعلان دولة الخلافة في الموصل بعد سقوطها عام 2014، تمدد التنظيم بشكل مذهل وامتدت أراضيه إلي سوريا ليحكم أرضا تبلغ مساحتها قدر مساحة المملكة المتحدة وسكانا قاربوا العشرة ملايين  نسمة، لكنه تراجع لاحقا وفقد الأرض والموارد  والسكان التي كان يسيطر عليها في المدن، لينسحب إلى مناطق البادية والأطراف في منتصف عام 2017 وما بعده ويتحول من دولة إلي ولايات ثم إلى  شبكات محلية تعمل بدون تنسيق مع التنظيم، لكنها تعمل وفق استراتيجيته، خاصة في المناطق الرخوة كأوروبا ودول الغرب وأمريكا.

نجد أن الشبكات الاجتماعية العنيفة هي من يحل اليوم محل التنظيمات الكبيرة، وكان تنظيم التوحيد والجهاد في سيناء نوعا من شبكة اجتماعية أقرب منه إلي تنظيم منذ ظهوره عام 2004 قبل أن يتحول إلي تنظيم أنصار بيت المقدس  ثم ولاية سيناء.

كذلك المجموعة التي يقودها عمرو سعد عباس إبراهيم، وأغلبهم من قرية الشويخات بالأشراف البحرية بقنا ويبلغ عددهم خمسة عشر يمثلون شبكة إرهابية وليس تنظيما بمفهوم التنظيم، فأغلبهم يجمعهم الانتماء الجغرافي لقرية واحدة وتربط كثير منهم علاقات الجيرة والمصاهرة والقربى، وكانوا يمثلون ما نطلق عليه في الحركات الاجتماعية “الشبكات المخفية” submerged-network  حتي تم الكشف عنهم بعد تورطهم في تنفيذ عمليات إرهابية أخطرها تفجيرات الكنائس المتعاقبة سواء الكنيسة البطرسية في ديسمبر عام 2016 أو كنيسة مار جرجس بطنطا  والكنيسة المرقسية بالإسكندرية  في إبريل 2017. وتتجلى في هذه المجموعة الإرهابية بالذات ما نطلق عليه الشبكات السائلة، فلا أحد يعرف حدودا واضحة لتلك المجموعة يمكن أن تساعد في تصنيفهم ضمن تنظيم كبير، فيما تتنازعهم أفكار وتنظيمات متصارعة مثل بعض فروع القاعدة التي يقودها هشام عشماوي ضابط الصاعقة المفصول من الجيش المصري الذي أسس في ليبيا والصحراء الغربية المصرية الوعرة ما عرف باسم “المرابطون”، وفرع تنظيم داعش في شمال سيناء حيث تم ضبط بعض القادمين من هناك مع أفراد الشبكة في حادث إسنا بمحافظة الأقصر الذي تم القبض فيه علي بعض أفراد الشبكة كانوا يجهزون لعمليات إرهابية ضد الكنائس والآثار السياحية في المحافظة.

وفي المحاولة الأخيرة الفاشلة للاعتداء علي كنيسة مسطرد، يكشف بيان الداخلية حول الواقعة أننا أمام شبكة  إرهابية صغيرة أغلب أعضائها يقيمون في الزاوية الحمراء، وإحدي المتهمات متزوجة من أحد أفراد الخلية وأخت لفرد آخر فيها ومنفذ العمل الإرهابي من عين شمس المجاورة للزاوية الحمراء. هنا فإن علاقة الزمالة لأكثر من فرد في الجماعة يعملون في شركة بترول فضلا عن علاقة الجيرة والمصاهرة والصداقة هي الأساس الذي قامت عليه الشبكة.

ونلاحظ أن الحدود الواضحة ذات الطابع الأيديولوجي المميز للتنظيمات الكبرى تختفي تماما مع الشبكات الاجتماعية ذات الطابع المخفي أو السائل، وتسود حالة من السيولة ينتقل فيها أعضاء الشبكات من مكان لآخر ومن مجموعة لأخرى، فالأهم أن تكون جاهزة لعمل إرهابي وأن تكون أكثر تشددا وتطرفا.

 الشبكات الاجتماعية  العنيفة باتت الآن الشكل الأكثر احتمالا للمجموعات الإرهابية، فهي لا تحمل قيود أو أعباء التنظيمات الكبرى، ولا تتخذ طابع الذئاب المنفردة الذي يقوم فيه فرد واحد بتنفيذ عمل في حدود إمكانه وقدراته، ما يعني أن الإرهاب يتخذ أشكالا متنوعة وجديدة تجعل من محاولة فهمها ومعرفة تحولاتها أحد أهم التحديات لمجابهته.

 

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock