الحدث

«داعش».. من حلم الخلافة إلى حرب العصابات

على مدى ما يقرب من عام كامل، ظل مراقبو “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) يتساءلون عما إذا كان أبو بكر البغدادي – قائد التنظيم – لا يزال على قيد الحياة أم هلك مع الهالكين؛ حتى جاءتهم الإجابة مدوية يوم الأربعاء الماضي، عندما عاود البغدادي الظهور لأول مرة، بعد اختفاء طال ، عبر تسجيل صوتي بمناسبة عيد الأضحى.

في ثنايا خطابه، الذي استغرق 55 دقيقة – ليكون بذلك أطول خطاباته التي تم بثها – يشير البغدادي إلى أحداث وقعت مؤخرا؛ بما يؤكد أن هذا التسجيل يعود إلى أسابيع قليلة خلت.

يتزامن بث الخطاب مع صدور العديد من التقارير التي تؤكد أن بعثا جديدا يسري في جسد داعش  في كل من ديالي وصلاح الدين وكركوك وغيرها من المدن والمحافظات العراقية التي فقدها التنظيم ضمن قرابة 98% من المناطق التي كانت تخضع لسيطرته.

يتزامن الخطاب أيضا مع صدور تقديرات مفزعة عن كل من وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” والأمم المتحدة تفيد بأن تنظيم الدولة لا يزال يمتلك 30 ألف مقاتل في العراق وسوريا، ومع موجة عنف ونشاط لافت في عدد من الدول، مثل مصر وأفغانستان.

بعبارة أخرى، يبدو تنظيم الدولة وكأنه “يخضع لعملية انتقال ممنهجة من طور الخلافة إلى طور التمرد وحرب العصابات دون أن تتعرض بنيته للتفكيك”.

 أحلام المجد التليد

في هذا الخطاب، يجتر البغدادي تاريخ التنظيم الذي بدأ نشاطه كميليشيا صغيرة، داخل شبكة كبيرة من الجماعات المتمردة، تشن حربا لا هوادة فيها ضد الأمريكيين في محاولة لافتة للتعبئة والحشد.

أبو بكر البغدادي

 في هذا السياق، تنشر مجلة The Atlantic تقريرا مهما للباحث حسان حسان – زميل أول بمعهد “تحرير” لسياسات الشرق الأوسط، ومؤلف كتاب ISIS: Inside the Army of Terror – يتناول فيه ، خطاب البغدادي  بالتحليل ويسلط الضوء على مضامينه وإشاراته المستقبلية.

يؤكد التقرير الذي يحمل عنوان ISIS Is Ready for a Resurgence  أن الخطاب – بعيدا عن مقدمته الوعظية – “يمثل خارطة طريق لاستعادة المجد التليد”. ففي فقرة ذات دلالة، يطالب البغدادي أنصاره  بتنفيذ عمليات فردية “عمليات الذئاب المنفردة” في الدول الغربية، سواء عن طريق التفجير، أو الدهس بالسيارات، أو إطلاق الرصاص، أو استخدام الآلات الحادة.

ويلفت الباحث إلى أن هذه الدعوات كانت تصدر في الماضي عن المتحدث الرسمي السابق باسم التنظيم؛ أما الآن، فإن صدورها عمن نصب نفسه خليفة للمسلمين يجعلها “أكثر أهمية ودلالة”.

لكن الأمر الأكثر أهمية – كما يشير الباحث – يتمثل في اضطلاع البغدادي هذه المرة بتحديد الوزن النسبي لهذه العمليات بالأرقام؛ “فهجوم واحد في الغرب يعادل ألف هجوم في الشرق الأوسط”، في استدعاء صارخ لخطاب الجيش الجمهوري الأيرلندي في بريطانيا قبل عقود، الذي قدًر أن تفجيرا واحدا في بريطانيا يعادل مائة تفجير في أيرلندا الشمالية.

ويضيف الباحث أن داعش – على غرار القوميين الايرلنديين – يعي جيدا أن مثل هذه العمليات من شأنها أن تحقق له مزيدا من الذيوع والانتشار، وأن تثير ردود أفعال أشد  صخبا من قتل 200 مواطن من الدروز في جنوب سوريا، أو من تفجير سيارة في قلب بغداد.

حرب عصابات

وفي إشارة لافتة، يؤكد البغدادي أن أمريكا ترامب تعاني من حالة انهيار عصبي حاد جراء حربها التي استمرت على مدى عقدين من الزمان ضد الجهاديين في المنطقة. ويستدل على ذلك بحالة التوتر التي تغشى العلاقات الأمريكية التركية الآن في ظل العقوبات التي فرضتها واشنطن على أنقرة جراء إلقاء الأخيرة القبض على القس الأمريكي أندرو برونسون، ورفض حكومة إردوغان الالتزام بنظام العقوبات الأمريكية ضد إيران. يأتي هذا – وفقا للبغدادي – “في الوقت الذي تتسع فيه رقعة الجهاد”.

ويلفت التقرير إلى أنه على عكس الخطابات السابقة التي صب فيها قائد داعش  جام غضبه على حالة الترهل الداخلي التي أصابت التنظيم، وخسارته الأراضي التي كان يسيطر عليها، بدا البغدادي هذه المرة واثقا من قدرة التنظيم على تجاوز العاصفة.

وفي معرض تفسيره لكيفية انتقال التنظيم إلى استراتيجية حرب العصابات، يستلهم البغدادي الماضي عبر عبارة أيقونية أطلقها أبو مصعب الزرقاوي – المؤسس الأول للتنظيم – في عام 2006، عندما أعلن: لقد اندلعت الشرارة الأولى هنا في العراق، وسيزداد لهيبها حتى يحرق جيوش الصليبيين في دابق (في إشارة إلى المدينة السورية التي ستكون مسرحا لمعركة ملحمية فاصلة بين جيش الموحدين وجيوش الصليبيين، وفقا لبعض النصوص التراثية).

أبو مصعب الزرقاوي

لطالما كانت هذه العبارة محل استشهاد من قيادات التنظيم باعتبارها بشارة دينية لا تحتمل الشك، حيث لم تكن سوريا – وقت أن أطلقها الزرقاوي – قد شهدت أية إرهاصات لاضطرابات عسكرية أو عدم استقرار سياسي. في موضعين من خطابه، يستلهم البغدادي البشارة، ويشير إلى العراق باعتبارها مصدر الشرارة الجهادية الأولى مؤكدا أن خسارة التنظيم بعض أراضيه لا يعني بحال انطفاء جذوة الجهاد المقدس.

العدو القريب

يشير خطاب البغدادي أيضا بإلحاح إلى مقاتلي القبائل السنية الذين عاونوا الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد داعش في العراق، وساعدوها على إجلائه عن المدن السنية في عام 2007، ويقول: “وبرغم قلة العدد، فقد دشن داعش في العراق حملة ناجحة على مدى سنوات لاستئصال شأفة هؤلاء المقاتلين السنة”.

وعود إلى استخدام الأرقام وتحديد الأوزان النسبية، يشير البغدادي إلى أن “رصاصة واحدة في صدر محتل أمريكي تعدل تسع رصاصات في صدور هؤلاء المرتدين”، مؤكدا أهمية أن يوجه كل فرد في جيش الموحدين جل قوته ضد أعداء الداخل.

كما يلفت البغدادي في ثنايا خطابه إلى التكتيك الناجح الذي لجأ إليه داعش في غير مرة، والذي يتمثل في التخلص من الفصائل السنية عبر مزيج من عمليات القتل والتجنيد محددة الأهداف، ويتوعد المتمردين السوريين بالمصير نفسه. ويناشد الجنود بالتخلص ممن وصفهم بـ “القادة الخونة الذين أبرموا سلسلة من صفقات الاستسلام مع النظام السوري”.

وفي إشارة أخرى إلى القبائل السنية، يلفت البغدادي إلى أن القوات العراقية لا تزال تعول بشدة على القوة العسكرية الأمريكية في التصدي لهجمات  تنظيم داعش . رغم ذلك، فقد “نجح مقاتلو التنظيم  في تعقب أبناء قبائل مهمة في العراق في وضح النهار، ولم تنفعهم النداءات المتكررة التي وجهها شيوخ قبائلهم إلى الميليشيات الشيعية والحكومة في بغداد لحمايتهم”.

نهج جديد

ويلفت الخطاب إلى النجاح الفائق الذي حققه التنظيم خلال هذا الصيف في استهداف قادة المجتمع المحلي والميليشيات الكبرى وقوات الأمن دون أن يلحقهم أذى، إضافة إلى وقوع قوات موالية للحكومة في كمائن نصبها مسلحون، ولا تزال هذه القوات تعتمد تماما على الضربات الجوية الأمريكية لاحتواء الهجمات التي يشنها التنظيم، بما في ذلك الهجمات الصغيرة.

“ففي الآونة الأخيرة، على سبيل المثال، تمكن 20 مقاتلا من السيطرة شبه الكاملة على منشأة نفطية كبرى في قلب منطقة تخضع لتأمين التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في دير الزور، ولم يتم إجلاؤهم إلا عن طريق ضربات جوية أمريكية”.

يتحدث البغدادي أيضا عن عزم جماعته على استعادة سيطرتها على المنطقة بأكملها، فيما يمثل ثيمة متكررة في البيانات الصادرة عن التنظيم منذ أن بدأت سلسلة هزائمه في عام 2016. ويفيد التقرير بأن التنظيم قد حاول استمالة السعوديين عبر توظيف لغة الإسلام الأصولي، كما يلفت إلى توغل الضربات الداعشية إلى قلب العاصمة الإيرانية طهران، في يونيو 2017، في أول هجوم من هذا النوع في تاريخ الحركات الجهادية السنية؛ فقد هاجم مسلحون البرلمان الإيراني وضريح مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، آية الله روح الله الخميني، ما أسفر عن سقوط 17 قتيلا، فيما يمثل حلقة من سلسلة محاولات يبذلها التنظيم من أجل تقويض تنظيم القاعدة الذي تجنب مواجهة إيران، وتنصيب نفسه مدافعا عن السنيين ضد أعدائهم من كافة الملل والمذاهب.

ويخلص التقرير إلى أن البغدادي لم يتوشح السواد كـ”خليفة متباك على خلافته الزائلة” في هذا الخطاب، وإنما راح يلهم رعيته اجترار الأمس التليد والنجاحات الغابرة لرسم مسارهم نحو بناء مجد مستقبلي:”لقد أوضح خطاب البغدادي بجلاء أن التنظيم  يعي جيدا دروس العقدين الماضيين. فهل يعي أعداؤه هذه الدروس؟ هنا تكمن المسافة بين الهزيمة والنصر”.

هذا المقال مترجم ومنقول عن تقرير بموقع The Atlantic

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock