منوعات

اتبع «إحساسك» أحيانا.. الإفراط في التفكير ليس الأنسب دائما

تراجعت كثيرا قيمة  الحدس الإنساني  في عصر التفكير العقلاني والتحليلي، لكن الحقيقة أن استجاباتنا العاطفية ليست غامضة دائما كما يعتقد البعض، وفقا لمقال مهم نشرته حديثا عالمة الأعصاب فاليري فان مولوكوم، أستاذ علم النفس في جامعة أوكلاند في نيوزيلندا.

فاليري فان مولوكوم

تخيل مدير شركة كبيرة يعلن قرارًا مهما ويبرره على أساس أنه نابع من مشاعره الغريزية، سيقابل هذا بالإنكار غالبا، مع التأكيد على أنه يجب التفكير في القرارات المهمة بعناية، وبشكل علمي وعقلاني؟.

الواقع أن الاعتماد على الحدس (الإحساس الداخلي) يتمتع بوجه عام بسمعة سيئة، في العالم الغربي خاصة، مع انتشار الترويج للتفكير التحليلي بشكل مطرد خلال العقود الماضية. تدريجياً أصبح الكثيرون يعتقدون أن البشر قد تخلصوا إلى الأبد من الاعتماد على التفكير البدائي والسحري والديني لصالح التفكير التحليلي والعلمي، ونتيجة لذلك فإنهم ينظرون إلى العواطف والحدس كأدوات بائسة، بل وغريبة.

أسطورة التقدم المعرفي

وعلى الرغم من أن هذا الموقف يستند إلى “أسطورة التقدم المعرفي” إلا أن الواقع يٌفضي بأن  المشاعر ليست استجابات غبية يلزم دائما تجاهلها أو حتى تصحيحها عبر مراجعة عقلانية، فمشاعرنا غالبا ما تختزن كثيرا من أفكارنا وخبراتنا السابقة في الحياة، وتستعيدها تلقائيا في كثير من المواقف، وبهذا المعنى، فإن الحدس أو المشاعر تمثل في بعض الأوقات شكلا من أشكال معالجة المعلومات.

يتكون الحدس أو الإحساس الغريزي نتيجة للكثير من المعالجات التي تحدث في الدماغ، وحسب أبحاث علمية حديثة فإن الدماغ يعد بمثابة “جهاز تنبئي كبير” يقارن باستمرار المعلومات الحسية الواردة والخبرات الحالية من المعرفة المخزنة وذكريات التجارب السابقة، ما يساعده على التنبؤ بما يمكن أن يحدث لاحقًا، فيما تم وصفه علميا بـ” إطار المعالجة التنبؤية”. بمعنى أن الدماغ على استعداد دائما للتعامل مع الوضع الحالي على النحو الأمثل قدر الإمكان، وفي حال عدم التطابق (شيء لم يكن متوقعًا)، فإن دماغك يقوم بتحديث نماذجه المعرفية، وهذه المطابقة بين الخبرة السابقة والتجربة الحالية تحدث بشكل تلقائي ولا شعوري.

يتشكل الحدس أيضا عندما يكون دماغك لم يكون خبرة مستبقة أو عندما يكون هناك عدم تطابق كبير بين النموذج المعرفي المكتسب والتجربة الحالية، في حال عدم اختزانها بعد في عقلك الواعي.

على سبيل المثال، قد تكون تقود سيارتك على طريق ريفي في الظلام وانت تستمع لبعض الموسيقى، ثم يتكون لديك فجأة الحدس للقيادة على جانب واحد من الحارة المخصصة لك، ومع مواصلة القيادة  قد تلاحظ أنك تفاديت حفرة ضخمة كان من الممكن أن تلحق ضررا بالغا بسيارتك، في هذه الحالة تشعر بالسعادة لأن اعتمادك على الشعور الغريزي الذي لا تعرف حتى من أين جاء قد أنقذك من هذا الحادث. في الواقع  ما حدث أن السيارة التي تبتعد عنك بمسافة كبيرة أمامك قامت بانحراف صغيرمماثل (لربما لأن من يقودها من السكان المحليين ويمتلك معرفة عن الطريق)، وقمت أنت بالتقاط هذا دون تسجيله بوعي منك.

وعندما يكون لديك الكثير من الخبرة في منطقة معينة، فإن الدماغ يتكون لديه المزيد من المعلومات للمقاربة بين تجربة تعيشها الآن مع تجارب سابقة، وهذا يجعل من حدسك أكثر موثوقية، كما يعني أن حدسك لديه القابلية للتحسن من خلال التجربة، كما هو الحال في مجالات الإبداع.

أنماط التفكير

الأدب السيكولوجي، غالباً ما يعرف الحدس كواحد من اثنين من طرق التفكير، إلى جانب التفكير التحليلي. ويتسم التفكير الحدسي بأنه تلقائي وسريع وغير واع، فيما يوصف التفكير التحليلي بأنه بطيء ومنطقي وواعى ومتعمد.

يميل كثيرون إلى التمييز بين التفكير التحليلي والتفكير البديهي، باعتبار أن هذين النمطين من التفكير متعارضان أو يعملان بطريقة متناقضة، إلا أن العديد من الدراسات العلمية الحديثة أثبتت أن التفكير التحليلي والبديهي لا يتعارضان دائما، ويمكن أن يحدثا في نفس الوقت. قد يكون صحيحا أن نمطًا واحدًا من التفكير قد يهيمن على الآخر في أي حالة، خاصة التفكير التحليلي، إلا أن الطبيعة الباطنية للتفكير البديهي تجعل من الصعب تحديد متى يحدث ذلك بالضبط، ويرتبط الأمر غالبا بما يحدث في ما وراء العقل الواعي.

وبالفعل، فإن هذين النمطين للتفكير متكاملان في الواقع ويمكنهما العمل بشكل متناسق، حيث أننا نوظفهما معا بانتظام، فكثير من فتوحات البحث العلمي الرائدة تمت بناء على معرفة بديهية ساعدت العلماء على صياغة أفكار وفرضيات مبتكرة، أمكن التحقق منها لاحقا من خلال الاختبارات والتحليلات الصارمة. الأكثر من ذلك، أنه في حين أن الحدس يُنظر إليه على أنه غير دقيق، فإن التفكير التحليلي قد يكون ضارًا أيضًا، حسب ما أظهرته دراسات أخيرة أكدت أن الإفراط في التفكير يمكن أن يعوق عملية اتخاذ القرار بشكل خطير.

التحيز المعرفي

في حالات أخرى، قد يتكون التفكير التحليلي ببساطة من مبررات نجدها بعد اتخاذ القرارات التي تعتمد على التفكير البديهي، يحدث هذا على سبيل المثال عندما يتعين علينا شرح قراراتنا في المعضلات الأخلاقية، وهذا التأثير أتاح لبعض منا العودة أحيانا إلى التفكير التحليلي باعتباره “السكرتير الصحفي” أو “المحامي الداخلي” للحدس. حقيقة الأمر أننا في كثير من الأحيان لا نعرف سبب اتخاذنا لكثير من القرارات، رغم ما يتملكنا دائما من رغبة أن يكون لدينا أسباب لما نتخذه من قرارات.

وفيما حال تعرضك لموقف يستدعي قرارًا يستند إلى تقييمك، عليك أن تفكر فيما إذا كان الحدس الخاص بك قد قام بتقييم الموقف بشكل صحيح. السؤال هنا: هل ينبغي لنا الاعتماد فقط على حدسنا لمساعدتنا في اتخاذ القرار؟ الإجابة أن ذلك الأمر ليس بهذه البساطة، فالحدس غالبا ما يعتمد على معالجة متطورة وسريعة لخبراتنا السابقة، ما قد يوقعنا فريسة لسوء التقدير والتحيز المعرفي أحيانا، وهي أخطاء منهجية في التفكير الحدسي تحدث تلقائيا.

على الرغم من ذلك، يمكن للتفكير الحدسي أن يساعدنا في التعرف على اكتشاف التحيزات المعرفية الشائعة، رغم أن المعالجة السريعة التي يوفرها التفكير الحدسي قد يجعلها غير متوافقة أحيانا مع توقيت المناسبة أو المعضلة  أو تراكم الخبرات الذي يوفره العلم. على سبيل المثال عندما ترى طبقًا من الكعك، قد تنجذب إلى أكله كله لكن التفكير التحليلي يرشدك أنك لا تحتاج إلى كمية كبيرة من السكريات والدهون. وبالمثل، فإن الإنسان في الأزمنة القديمة التي اعتمد فيها على الإلتقاط و الصيد، كان يدرك أن تخزين الطاقة أمر حكيم.

هذه المادة مترجمة

تامر الهلالي

مُترجم وشاعر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock