منوعات

المنتحرون.. «الحيوات العارية»

ميز اليونانيون القدامى بين معنيين للحياة، zôé تعني الحياة بصفة عامة التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان والنبات، وbios التي ينفرد بها الإنسان، وتعنى طريقة العيش أو نمط الحياة الخاص بالبشر، فالكائنات جميعها “تحيا” لكن الإنسان وحده “يعيش”.

تلك الخصيصة الإنسانية كانت سببا في أن تحسد آلهة اليونان الإنسان، فالإله يحيا لكنه لا يملك نمطا للعيش، لأنه ليس كائنا متناهيا. هذا التفرد والتميز لم يمنع الإنسان من أن يتساءل دوما: هل تستحق الحياة أن تعاش؟.

أشهر من أجاب على ذلك السؤال في العصر الحديث هو الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو أثناء بحثه في مسألة الانتحار التي عدها المسألة الأم للفلسفة، وبغض النظر عما إذا كان الانتحار أم المسائل الفلسفية، كما اعتبره كامو، أم لا، غير أنه في بلدنا اليوم سؤال يتقدم غيره من الأسئلة، وظاهرة اجتماعية تزاحم مثيلاتها على الصدارة.

ألبير كامو

 لسبر غور هذه الظاهرة الإنسانية استعمل الفيلسوف الفرنسي مفهوم العبث، ورأى أن البداية تكون عندما يتغلغل هذا الشعور داخل النفس الإنسانية بفعل ضغوط الحياة اليومية ومصاعبها، لينتبه وعي الفرد من رقاده؛ يفكر في المستقبل فلا يبصر غير الأبواب الموصدة، ويصاحبه شعور بالاغتراب عمن حوله، وإحساس بانعدام الأمل في أن تتحسن أحواله، من هنا يتمكن منه الشعور بالعبث، وهو في رأي كامو لا ينتمي إلى العالم ولا إلى الإنسان، إنما يتشكل بوجود الإنسان في العالم.

وللتخلص من هذا الشعور المسيطر والجارف يقف المرء أمام خيارين: إما التمرد الذي يستهدف التغيير الجذري أو الانتحار، أي أن الانتحار وفق كامو يقع عندما يفقد الإنسان كل معنى للحياة فيدفعه ذلك للسقوط في براثن العبث، من ثم يصبح الانتحار أحد سبيلين للنجاة من الإحساس الضاغط  الذي يولده الشعور بالعبث.

هناك أطروحة أخرى اقتربت من ظاهرة الانتحار، وإن لم تشتبك معها بشكل مباشر؛ للفيلسوف الإيطالي جورجيو غامبين تحت مسمى “الحياة العارية”. استقى غامبين المصطلح من إحدى شخصيات القانون الروماني القديم، ويشير إلى الشخص المستباح أو مهدور الدم، الذي لا يترتب على قتله أية عقوبة؛ لأن المجتمع أو القائمين عليه جردوه من حقوقه القانونية، فأمسى بمقدور أيا كان أن يقتله دون أن يخشى من المحاسبة أو العقاب.

جورجيو غامبين

السلطة التي تفرض هذه الحالة يصفها غامبين بالسيادية، وتتأسس عبر إقامة نظام سياسي إحدى ركائزه الرئيسية إقصاء “الحياة البشرية العارية” من خلال سن أو تفعيل “الاستثناء السيادي” الذي يُعطل عبره القانون عن العمل. في هذا الوضع السيادي أو الاستثنائي يُحرم المواطن من كافة حقوقه ليتحول إلى “حياة عارية”، حيث “السلطة السيادية” وحدها هي صاحبة القرار في تحديد من سوف يُعترف به كإنسان، ورغم حرمان المواطن في ظل نظام كهذا من حقوقه وتموضعه على هامش السياسة، فإنه يبقى مع ذلك “جزء تأسيسي” منها لكن غير معترف به.

هذه الحالة من عدم الاعتراف بحقوق المواطن السياسية والاجتماعية تحصره داخل حدوده البيولوجية التي تديرها الدولة أيضا رغما عنه، لذا ينبه غامبين إلى أن “الحياة العارية” ليست عودة إلى حالة “ما قبل المجتمع”، فهي حالة اصطناعية غير “العري” الأصلي والطبيعي.

يأتي قرار الانتحار تبعا لتلك الرؤية  نتيجة لشعور المرء بامتهان إنسانيته، بعد أن جُرد من كافة حقوقه، ليترك “عاريا” على قارعة مجتمعه. في تلك اللحظة تتفوق أهوال الحياة على أهوال الموت، ولا يلقي الإنسان بالا لأي صوت داخله يعترض إقدامه على خطوة كهذه، فالآلام النفسية تُسكت أي صوت آخر.

تصبح الحياة، كما قدمها شوبنهاور في فلسفته، خطيئة يجب تجاوزها، ومدفوعا بإرادة الحياة يُقدم الإنسان على قتل نفسه، فعلٌ هو حرية لتلك الإرادة ونفي لها في آن، بعد رفض الإنسان، بإقدامه على فعل الانتحار، أن “يحيا” إثر عجزه عن أن “يعيش”.

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock