منوعات

الصورة الأخيرة… المعنى الباقي

كثير من الشخصيات البارزة في تاريخ الإنسانية ساهمت الصورة الأخيرة في صناعة مآثرهم، أو أضافت إليهم، أو خففت من غلواء نقدهم وجلدهم، وغفرت لهم بعض أخطائهم وخطاياهم. وربما لو انتهت حياتهم من دون هذه الصورة الفارقة لنقص الكثير من قدرهم ودورهم التاريخي المشهود له، ولما جنوا من حياتهم المديدة سوى اللعنات القاسية.

فالصورة الأخيرة للثائر الأرجنتيني تشي جيفارا ساهمت في تخليد ذكراه، لما انطوت عليه من تحد كبير لمن قتلوه، ولما رمت إليه من نظرة إلى البعيد، كأنها تقول إن ما أؤمن به سيظل قائما والثورة ضد الإمبريالية لن تنقضي بموتي، والثوار باقون ما دام هناك ظلم واستغلال.

تشي جيفارا

لم تدر المخابرات الأمريكية أن هذه الصورة، التي سربتها لتلقي الروع في قلوب كل من يؤمن بأفكار جيفارا، ستؤدي إلى نتيجة مغايرة تماما، وأن مشهد عينيه المنبلجتين في موت محقق سيصبح أيقونة لعشرات الملايين في العالم، تجعل من صاحبها لوحة خالدة على جدران بيوت ومنازل في القارات الست.

والصورة الأخيرة لياسر عرفات اختزلت كل فصول حياته المترعة بالشقاء والكفاح. فالرجل ظهر هزيلا متآكلا وهو يصعد سلم الطائرة الأردنية التي أقلته إلى عمان ومنها إلى باريس حيث فاضت روحه. كان متعبا إلى أقصى حد، وقبل أن يدلف إلى داخل الطائرة، التفت ولوح لمودعيه بيد مرتعشة، لكن بعينين مملوءتين بالأمل والثفة، وبدا ثيابه وغطاء رأسه الرمادي وكأنهما تعبير عن المرحلة التي وصلت إليها القضية الفلسطينية، إذ رحل عرفات والفلسطينيون في منتصف الطريق، جاءوا من المنافي والشتات وأسسوا سلطة في بعض أراضيهم، ودخلوا في مقاومة مشهودة بلغت ذروتها في انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000 ، لكنهم لم يتمكنوا بعد من أن يحولوا السواد إلى بياض كامل، بتحرير أرضهم وإعلان دولتهم المستقلة ذات السيادة.

ياسر عرفات

صورة عرفات تلك لم تعبر فقط عن القضية التي كرس حياته من أجلها، بل إنها تجلي أيضا جانبا من هذه الحياة نفسها. فعرفات الذي قررت إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة التخلص منه عاش حياة بسيطة متقشفة، ورغم أنه كان يضع يديه على أموال منظمة التحرير الفلسطينية فإنه لم ينزلق إلى رغد من عيش ينسيه طبيعة دوره ووضعه كرمز لقضية عادلة، فاكتفى بزي واحد، توزع على ثلاث بذلات لا أكثر، ونام في مقره بالمقاطعة في رام الله على سرير بسيط، وكانت طاولة الاجتماعات التي يلتقي عليها رفاقه صغيرة ورخيصة، لا تختلف عن كل المكان الضيق المتواضع الذي كان يعيش فيه. وجاءت الصورة الأخيرة لتؤكد هذا المعنى وذلك المسار الحياتي لعرفات، فغفرت له الكثير من أخطائه، ووضعته، لدى الشعوب العربية والإسلامية وكل الذين يدافعون عن الحقوق العادلة في مشارق الأرض ومغاربها، في مصاف المجاهدين والمناضلين العظام الذين عرفتهم الإنسانية في عمرها المديد.

  ولو مات صدام حسين من دون مشهد إعدامه الذي تسرب إلى الفضائيات فنقلته للبشرية جمعاء لكان قد خسر الكثير. فصدام الطاغية الذي حكم بلاده بالحديد والنار واستعذب مشاهد الدم في قتل خصومه ومعاركه الخاسرة، وجد من يذرف عليه بعض الدموع، لأنه رحل واقفا كما يرحل النخل. لم ينحن أمام المشنقة، ورفض أن تُغمّي عيناه، ومضى إلى مثواه الأخير ثابتا، لم يجرجر قدميه أو يترحم مثلما يفعل الذين يساقون إلى المشانق، ثم نطق بالشهادتين، وسقط إلى نهايته المحتومة.

هذا المشهد تحدث عنه كثيرون في الشوارع وعلى صفحات الصحف وفوق الحيز الإلكتروني على شبكة الإنترنت، وفاضت له عواطف لا حد لها، وصلت بالبعض إلى تمجيد صدام لأنه لم يخف من أحد ولا من شيء حتى ولو كان الموت، وغفر له آخرون كل خطاياه لأنه “عاش رجلا ومات بطلا” حسب مانشيت إحدى الصحف المصرية. وحتى الذين احتفظوا بأحكامهم العقلية حيال الرجل، والتي لم تر فيه سوى أنه مستبد ومتوحش وأحمق، تزحزحوا قليلا بفعل المشهد الأخير، واستثنوه في الحكم على مسار صدام ومسيرته. ورأى بعض المتعاطفين معه أن الطريقة التي أراد بها صدام أن ينهي حياته انطوت على شعوره الكبير بعدالة قضية بلاده، وأن حزبه الذي تركه مشتتا في جنبات العراق وغيرها، سينتصر في النهاية على آلة الحرب الأمريكية ومن يعاونها.

صدام حسين

 بالطبع ليس صدام هو الوحيد الذي ذهب إلى المشنقة ثابتا، لكنه الأشهر على الإطلاق. فقبله رفض ذو الفقار علي بوتو أن يعتذر للجنرال ضياء الحق الذي انقلب عليه واقتنص منه حكم باكستان، وقال للذين ذهبوا إليه برسالة من الرئيس الجديد يطالبه بالاعتذار مقابل أن يظل على قيد الحياة: “سأحكم باكستان من قبري”، وتحققت نبوءته حين أصبحت ابنته بنازير رئيسة للوزراء.

ومن دون شك فإن الصورة الأخيرة للمفكر الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري قد عززت الصورة الذهنية الإيجابية عنه والتي قامت على أكتاف كتبه العديدة وفي مطلعها موسوعته الخالدة “اليهود واليهودية والصهيونية”. فالمسيري كمفكر كان محل إعجاب شديد، لكنه آثر في نهاية حياته أن ينزل إلى الشارع، ويهجر غرفة مكتبه التي شهدت ميلاد الأفكار وإعداد الأبحاث المطولة، ليشارك المصريين احتجاجهم على أداء السلطة، ومطالبتهم بالإصلاح. وبنزوله هذا حقق المسيري نظرية “المثقف العضوي” التي وضعها المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي والتي تنتصر للمثقفين الذين لا يكتفون بإنتاج الأفكار بل ينخرطون مع الجماعة في سبيل نقل هذه الأفكار من بطون الكتب إلى رحاب الواقع.

عبد الوهاب المسيري

قرار المسيري بالمشاركة في الاحتجاج من خلال قبوله قيادة حركة “كفاية” لمدة عام تقريبا هو الذي أدى إلى ظهور الصورة الأخيرة في حياته، وكانت مؤثرة في نفوس وعقول كثيرين. فقد بدا الرجل الذي هده مرض عضال وهو يكاد أن يسقط على وجهه، بينما كانت مجموعة من رجال الشرطة ترتدي الزي المدني يدفعونه إلى الأمام، وأنصاره ومحبوه يدفعون أيدي الشرطة عنه، ويحمونه بأيديهم في الوقت نفسه.

كان المسيري مقوس الظهر، وبذلته متهدلة، ونظارته متدلية عن مكانها قليلا، وشعره مهوشا، وملامحه يكسوها الأسى، لكنه بدا عازما على التمسك بموقعه داخل المظاهرة المحدودة. وتوالت الصور، التي تم التعبير عنها كلاميا، لكن أحدا لم يرها، ومن بينها خطفه وزوجته وإلقائهما في عمق الصحراء، عقب مظاهرة شاركا فيها، لكن الكلام أكد الصورة الأخيرة، التي رافقت خبر وفاة المسيري، وساهمت في انتشاره على نطاق واسع، وفي إطلاق تعقيبات غزيرة عليه، تؤبن الرجل، وتعدد مآثره في الفكر والنضال السياسي معا.

وكانت الصورة الأخيرة للرئيس المصري أنور السادات حافلة بالعبر، حيث ظهر وهو ملقى بين مقاعد “المنصة” الرئيسية والدم يسيل من رأسه، ويلطخ النياشين التي تكلل صدره. فهذه الصورة بقدر ما تبين نهاية غطرسة السلطة فإنها توضح بجلاء غدر الجماعات المتطرفة التي اقترب منها السادات وعزز وجودها.

وهناك أيضا صورة الدكتاتور الروماني نيقولاي شاوشيسكو وهو ملقى على الأرض بعد إعدامه رميا بالرصاص، والتي لخصت نهاية كل مستبد ظالم يستعبد شعبه ويستهين به.

أنور السادات

الصورة الأخيرة قد تصنع رجلا، أو تغفر لآخر خطاياه، وقد تصير أيقونة ورمزا لكفاح بعض الآدميين وانتصارهم على الشدائد، وإصرارهم على حفر دور بارز في مسيرة الإنسانية المفعمة بالأفراح والأتراح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock