فن

صلاح منصور.. سطوع متأخر ورحيل مبكر

في عام 1947 تخرجت الدفعة الأولى في معهد التمثيل بالقاهرة.. تلك الدفعة التي ضمت شكري سرحان وفريد شوقي وحمدي غيث ونعيمة وصفي وآخرين إلى جانب موهوب الجيل صلاح منصور الذي أجمع زملاؤه على تفرد أدائه التمثيلي الذي سيؤهله -دون شك- لأدوار البطولة.

هؤلاء العمالقة – فيما بعد- كانوا هم جمهوره الأول الذي أظهر كل علامات الدهشة والانبهار، وهم يشاهدون ما يقدمه “منصور” على مسرح المعهد؛ خاصة أداءه لدور “هاملت” ذلك الدور الذي قدمه مرات عديدة؛ فأبدع في كل مرة وأضاف حتى استقر الأمر لدى الكثيرين من أهل الفن أن “صلاح منصور” أغلق دور “هاملت” عليه إلى الأبد.. وللأسف فإن هذا الأداء العبقري لم يصور ولم يحفظ لنا، كغيره من أهم وأعظم الأعمال المسرحية المصرية في ذلك الوقت.

نبوءة الجيل الأول كادت أن تتحقق بشأن الفتى صلاح، إذ رشح – فور تخرجه- لدور بطولة في فيلم “عبيد الذهب” مع المطربة “مَلَكْ”، وبعد أن انتهى صلاح من تمثيل مشاهده في الفيلم؛ دب الخلاف بين المنتج والمخرج وبطلة العمل؛ مما لأدى لعدم إتمام الفيلم، كما اختفى “نيجاتيف” الفيلم إلى الأبد.

هذه الحادثة ربما كانت سببا في كسر حظ الفتى الموهوب؛ فلم يجد غير الأدوار الصغيرة في أفلام شهيرة، وكان قد شارك بدور صغير وهو في السنة الثانية بالمعهد في فيلم “غرام وانتقام” عام1944، ثم شارك في العام 1950 بدورين صغيرين في فيلمي “شاطئ الغرام” و “الآنسة ماما”، ودور كومبارس في “اسكتش” العقلاء في فيلم “المليونير” من بطولة إسماعيل ياسين؛ لكن هذه الأدوار الصغيرة لم تتقدم به خطوة؛ فأصيب باليأس من العمل بالسينما؛ واتجه للعمل بالإذاعة بعد أن دعاه الفنان السيد بدير للعمل معه بإذاعة الشرق الأدنى.. ولكنه ما لبث أن انتقل للإذاعة المصرية، وساهم في تأسيس أول مكتبة مسرحية للإذاعة المصرية، بعد أن أعاد تمثيل كل المسرحيات الشهيرة.. وكان “منصور” يتمتع بموهبة القدرة على التحدث بأصوات مختلفة، فكان يقوم في كل مسرحية يقدمها للإذاعة بعدة أدوار ليتقاضى عن الدور الواحد مبلغ مئتي قرش.. ولم يكن ما يتقاضاه من الإذاعة كافيا، لذلك ظل محتفظا بوظيفته كمدرس مسرح بوزارة التربية والتعليم.

الفنان الكبير زكي طليمات

عشق صلاح منصور المسرح عشقا طاغيا؛ إذ لم يستطع الابتعاد عن خشبة المسرح منذ عرفها يافعا في مدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية؛ حين اضطرت الأسرة للمغادرة إليها بسبب ظروف عمل والده الذي كان يعمل مفتشا بوزارة المعارف. كانت الوزارة –آنذاك- تولي المسرح المدرسي أهمية كبيرة لدرجة أنها أسندت مسئولية النشاط المسرحي بالمدارس للفنان الكبير زكي طليمات، وكانت أمارات النبوغ الخطابي قد ظهرت على “منصور” مبكرا مما دفع الأب للتفكير بإلحاق ابنه بكلية الحقوق، التي كانت الطريق الأسرع لتولي المناصب؛ لذلك رفض الوالد بصرامة التحاق “صلاح” بفريق التمثيل بالمدرسة، لكن رفضه لم يصمد طويلا بعد أن علم من ناظر المدرسة أن موهبة صلاح التمثيلية لا نظير لها، وأن أداءه على مسرح المدرسة يأخذ بالألباب. كانت الأم تشجع ابنها على التمثيل منذ اكتشفت موهبته وهو بعد في الرابعة من عمره، حين كان يبرع في تقليد جارة لهم دائمة الشجار مع زوجها بسبب النفقة، كما كان يؤدي دور الشبح المخيف “أبو لحاف” الذي كانت أمه تخيفه بذكره لينام.

في العام 1939، وأثناء زيارة إمبراطور إيران لمصر لمصاهرة الأسرة العلوية؛ طُلب من زكي طليمات تقديم عمل مسرحي عن العلاقات المصرية الإيرانية عبر التاريخ، اختار “طليمات” فريقا من طلبة المدارس الثانوية ولم يقع الاختيار على صلاح لعدم تواجده في ذلك اليوم بالمدرسة، لكنه عندما علم ذهب لـ “طليمات” في المسرح الذي كانت تقام فيه البروفات؛ فعرفه وأسند إليه دور الزمان أو راوية التاريخ الذي ظهر في ثياب شيخ مسن، طويل اللحية غزير الشعر. كان أداء “منصور” مذهلا، ما جعل وزير المعارف –آنذاك- الدكتور محمد حسين باشا هيكل يطلب لقاءه، ويطلب من “طليمات” رفع مذكرة لإرسال “صلاح” في بعثة إلى الخارج لدراسة المسرح، لكن إقالة الحكومة بعد أيام ذهبت بذلك الحلم الجميل أدراج الرياح.

بعد أن أتم صلاح منصور تعليمه الثانوي طلب منه زكي طليمات الحضور للقاهرة والعمل كمحرر صحفي بمجلة “روزاليوسف” التي كانت تصدرها السيدة فاطمة اليوسف التي كان متزوجا منها وقتئذ، وبالفعل عمل منصور لبعض الوقت بالمجلة، واجرى حوارا مع المطربة ” أسمهان” لكن العمل الصحفي لم يستهوهه، فغادره والتحق بمعهد التمثيل.

مرت خمسة عشر عاما على تخرج منصور من معهد التمثيل، وما زالت أبواب الشهرة شبه موصدة في وجهه؛ وكأن تلك الغبطة التي أحاطه بها زملاؤه تحولت إلى حسد حال بينه وبين النجومية خاصة في السينما؛ إذ أنه بعد إنجازه الإذاعي أسس فرقة المسرح الحر مع زميليه توفيق الدقن وعبد المنعم مدبولي، وقدمت الفرقة عدة عروض جيدة مثل “عبد السلام أفندي” وكان منصور يخرج تلك العروض ولا يشارك بالتمثيل إلى أن اضطر لأداء دور الأستاذ رجائي في مسرحية “الناس اللي تحت” الذي كان يؤديه “الدقن” الذي انتقل بشكل مفاجئ إلى المسرح القومي.

كان أداء صلاح عظيما لدرجة أنه أحدث ضجة في الوسط الفني، وانهالت العروض السينمائية عليه مما أصابه بالدهشة حتى قال: سبحان الله.. عشت في الوسط الفني كل هذه السنوات ولم يكتشفوا عبقريتي إلا الآن.. إنه لأمر محير.

الفنان البريطاني”تشارلز لوتون”

اختاره المخرج صلاح أبو سيف لأداء دور صبي البقال في “بداية ونهاية “1960، وفي العام التالي اختاره كمال الشيخ لدور دياب قرني في فيلم “لن أعترف” ونال جائزة عنه، وفي نفس العام يختاره سعيد عرفة لبطولة فيلم “مع الذكريات” مع أحمد مظهر ونادية لطفي ومريم فخر الدين، وقام منصور في هذا الفيلم بأداء دور مدبولي الأحدب، وعُرض الفيلم في لندن في العام التالي وحضر العرض الممثل البريطاني الشهير تشارلز لوتون الحائز على جائزة الأوسكار كأحسن ممثل، والذي جسد دور الأحدب سينمائيا عن رائعة فيكتور هوجو رواية “أحدب نوتردام”، وقال “لوتون” للصحافة عقب الفيلم: “عدم وجود الممثل “منصور” في السينما العالمية يعتبر خسارة كبيرة؛ إنه يستحق عن جدارة أن يحمل شعلة الإبداع من بعدي”.

 بعدها شارك منصور في فيلم “الشيطان الصغير” عام 1963، ونال جائزة أحسن ممثل مساعد، ثم قدم دور العمدة الشرير مع فريد شوقي في هارب من الأيام، وفي العام 1965، قدم مع المخرج حسين كمال دورا رائعا في فيلم المستحيل الذي لم يصادف نجاحا جماهيريا برغم جودته الفنية.

ومع أبو سيف عام 1967، يقدم صلاح منصور أروع أدواره على الإطلاق، دور العمدة “عتمان” في فيلم الزوجة الثانية. وبالرغم من وجود صديق عمره الفنان شكري سرحان في دور البطولة؛ إلا أن أداء منصور بلغ ذروة الإبداع الفني فسرق الأضواء من الجميع، ولم يزعج ذلك سرحان كثيرا فقد كان يشهد طوال الوقت بأن صلاح هو أهم موهبة تمثيلية تخرجت في معهد التمثيل، كما شهد بذلك فريد شوقي عندما سئل عن أحسن ممثل في مصر فأجاب: “صلاح منصور هو الأحسن دون شك ودون منافسة تذكر”.

  

وفي العام التالي يقدم الثنائي “شكري” و”صلاح” عملا لا يقل أهمية من حيث القيمة الفنية، وهو فيلم “البوسطجي” من إخراج حسين كمال.

توالت أعمال منصور السينمائية والمسرحية بعد ذلك، مثل مسرحية “ملك الشحاتين” ومسرحية “يا طالع الشجرة” مع الفنانة نجمة إبراهيم، ومسرحية “واحد مش من هنا” مع العظيم “المليجي” التي أدى فيها منصور دور المقاول أبو الدهب، وكان الدور في الحقيقة عن رجل السلطة عثمان أحمد عثمان، وحققت المسرحية نجاحا كبيرا واستمر عرضها عاما كاملا، ومنعت السلطات بقرار غير معلن تصويرها للتليفزيون.

الفنان صلاح منصور كان من المتيمين بأداء الشيخ مصطفى إسماعيل، وأسس مع شكري سرحان والموسيقار محمود الشريف والموسيقار أحمد صدقي وآخرين رابطة لـ “سمِّيعة” الشيخ مصطفى إسماعيل، وكان أعضاء الرابطة لا يتخلفون عن مناسبة يقرأ فيها الشيخ آي الذكر الحكيم، وقال منصور عن الشيخ: “لقد استفدت من طريقة الشيخ في توصيل معاني آي الذكر ما لم أستفده من معهد التمثيل”.

الشيخ مصطفى إسماعيل رحمه الله

كان منصور شديد التعلق بصغيره هشام الذي ولد بمشكلات صحية، وبدأت حالته بالتدهور منذ عام 1971، عمل فناننا في هذه الفترة ليل نهار، وقبل كل ما عرض عليه من أعمال لتغطية مصاريف علاج نجله، ورغم ذلك نفدت نقوده؛ فسعى للحصول على علاج على نفقة الدولة خارج مصر، وترك العمل في مسرحية “ملك الشحاتين” وسافر إلى أوسلو ليقضي بها الفترة الأولى من العلاج، ثم ينتقل بابنه إلى لندن، وتوشك فترة العلاج على نفقة الدولة أن تنتهي، ويتصادف أن يزور السادات لندن، واثناء تواجده في السفارة المصرية يتقدم له منصور بأوراق تجديد العلاج لثلاثة أشهر أخرى؛ فيسوّف الرئيس الأمر، فيعترض الفنان طريقه قائلا: “لا أحد يعرف أحدا بعد أن ينفض الموكب”، فيمتثل له السادات ويوقع الأوراق.

لكن الطفل يتوفى أثناء عملية جراحية عام 1976، ويحزن منصور حزنا شديدا، فيصاب بعدة أمراض، في الأذن أولا، ثم بمرض خطير في العين احتاج إلى عملية لكنه أخفى الأمر وأرجأها إلى أن تتحسن الاحوال، ثم أصيب بتليف الكبد وسرطان الرئة، لكنه ظل يعمل ببطولة نادرة في كل ما يعرض عليه من أعمال متغلبا على آلام المرض؛ ليؤمن مستقبل أسرته قبل الرحيل الذي بات وشيكا. وكان شقيقه جمال منصور يعمل مدرسا للمسرح بالخليج، وعندما علم بمرضه جاء لزيارته وأخبره أنه كان يدرب طلابه على تقديم مسرحية “هاملت” وأن أحد طلابه قد أدى الدور بشكل رائع أبهره، وذكره بأداء صلاح منصور للدور، فقال صلاح: لو قدمته اليوم لأضفت إليه، فقال الأخ: كيف ذلك لقد عصرت الدور عصرا؟.. فما كان من الفنان العظيم إلا أن نفض عن جسده الواهن آلام المرض ووقف مؤديا مشهدا من المسرحية على نحو بالغ الروعة.. ثم انهار على فراشه منهكا.. وفي اليوم التالي غادر الفنان “صلاح منصور” عالمنا وهو لم يكمل بعد عامه السادس والخمسين بعد رحلة فنية زاخرة بالإبداع والعطاء.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock