رؤى

الأساطير الأخروية وإشكاليات تجنيس العمل السردي

منذ ميلاد الأسطورة وحتى الآن لم يتفق الباحثون والكتاب على تعريف واحد للأسطورة، حتى ذهب أحدهم إلى القول: يعرف معنى الأسطورة لكنه لا يستطيع أن يضع لها تعريفاً محدداً. وتاريخ الشعوب مليء بالأساطير التي تحوي في ثناياها معتقدات هذه الشعوب، وأجزاء من تاريخها مغلفة بإطار أسطوري مثير.

 ويذهب عالم النفس كارل يونج إلى أن الفرد لا يمتلك فقط وعياً شخصياً بل يمتلك أيضا وعياً اجتماعياً يحتوي على ما ورثته الإنسانية من فكر عام، وهي الصورة الأصلية التي تثب إلى وعينا وتصور لنا حياة سيكولوجية تعود للماضي، ويرى يونج أن هذه الصور تمثل عقل وتفكير أسلافنا القدامى وطريقة رؤيتهم للحياة والعالم والآلهة والبشر.

في البداية نشأت الأسطورة لمساعدتنا على التعامل مع المآزق البشرية المستعصية، وإعانة الناس على تحديد موقعهم في العالم وتحديد وجهتهم فيه، كلنا يريد أن يعرف من أين أتينا؟ ومع فقدان بداياتنا الأولى في ضباب ما قبل التاريخ، ابتكرنا لأنفسنا أساطير عن آبائنا الأولين، تساعدنا على تفسير موقفنا تجاه بيئتنا وجيراننا وعاداتنا، فكانت الأسطورة تعبيراً عن الحس الفطري بأن في العالم المادي حقائق ووقائع أكثر بكثير مما يظهر للعين.

 فالأسطورة بمعنى ما، تروي قصة حدث وقع في زمان ما، وتجعله ممكن الوقوع في كل الأزمنة، والميثولوجيا، بصفتها صياغة فنية، قادرة على الإشارة إلى ما وراء التاريخ وإلى ما هو غير زمني في الوجود البشري، كما تساعدنا في التعرف على ما وراء التدافع الفوضوي للأحداث العشوائية، وفي تبصر جوهر الحقيقة.

وقد أصدرت وحدة الدراسات المستقبلية التابعة لبرنامج الدراسات الاستراتيجية بمكتبة الإسكندرية الكراسة “45” في مارس 2018، تحت عنوان “الأساطير الأخروية.. من الإهمال والإخمال الديني إلى سؤال الشرعية الأدبية الأسطورية” للدكتور جعفر ابن الحاج السلمي الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة عبد المالك السعدي تطوان بالمغرب.

بداية لابد من الاتفاق حول قراءة النص بشكل عام، حيث أهتم السلمي بكتاب “الفتن” لنعيم بن حماد والمتوفي 229 هجرية كمثال لإشكالية تجنيس الأعمال السردية أو إن صح المدونات السردية العربية، فالكتاب لدي علماء الدين كتاب في الأحاديث ينتمي إلى الحقل الديني وأدى انتماؤه هذا إلى إهماله نظرا لموقف علماء السنة من صاحب الكتاب، إلا ان السلمي يقوم بتصنيف الكتاب تحت قائمة الأدب الأسطوري، ومن أبرز هذه الأنواع الأسطورية المهملة، الأساطير الأخروية، أي الأساطير التي تجعل مميزها الأساسي التنبؤ بما سوف يقع في “آخر الزمان”، أو في “الدار الآخرة”، بتعبير المسلمين، أو ما يسميه الغربيون بالإسكاطولوجية.

 الكتاب يحتوي على هذا النوع الأدبي، وهو يستحق الدراسة من منظور النظرية الأدبية على الأعم، ونظرية السرد خاصة، وضم الأساطير الأخروية ضمن جنس الأسطورة العربية، وإلحاقها بها باعتبارها فرعًا من أصل، ونوعًا من أنواع جنس أدبي معيّن وموصوف، والكشف عن مكونات هذا النوع الأسطوري وسماته وبلاغته وإشكالاته.

تطمح دراسة السلمي إلى أن تفي بكل ما يتعلق بأدبية الأسطورة الأخروية، وطرح نظرية نقدية منسجمة تمام الانسجام ومتكاملة، إلا أن هذا لم يتحقق في كراسة السلمي، فهو لم يجب عن أسئلة نعتقد أنها كانت مهمة وتتلخص في كيفية تطور الاسطورة الأخروية وآليات تطورها وملامح هذا التطور على مستوى النص والواقع والأسباب التي أدت إلى تطورها.

كل هذه الأسئلة لم يتم الإجابة عنها وإن تمت الإشارة إليها فقط دون الدخول في قراءة حقيقية تقدم الإجابات. ورغم أن السلمي كان يهدف إلى الوقوف عند شكل الأُسطورة الأخروية، باعتبارها النوع الأُسطوري الأَغزر والأَوفر في المدونة المدروسة، بل في التراث الإسلامي ككل، وحينما حاول السلمي الكشف عن بدايات الاسطورة الأخروية في التراث العربي خلص إلى عرض ومناقشة الكيفية التي تم بها تزيف النصوص الدينية بفعل الوضاعين من زنادقة وقصاص، كما كشف لنا طرق مقاومة هذا التزييف من طرف مجموعة من العلماء الجهابذة.

ويشرح في هذا الجزء الموقف السني من مدونة الأساطير الأخروية الأولى: كتاب الفتن لنعيم بن حماد ( 229هـ/844م)، نموذجا. ويحاول الاقتراب في الجزء الرابع من تحليل أدبية الأساطير الأخروية، من منظور نظرية الأدب ونظرية السرد، لكنه يخلص إلى أن نقد المحدثين المنبثق من صميم الرؤية الدينية السنية، والذي حسب قوله يمكن استثماره في وصف الأساطير الأخروية، وصفا منبثقا من نظريتي الأدب والسرد، لكنه في النهاية يظل احتمال لا نستطيع تأكيده إلا بدراسة هذه المدونات دراسات لغوية تستخدم مناهج البحث الحديثة، التي ابتعد عنها السلمي في هذه الدراسة واستند إلى المناهج والمفاهيم القديمة (التزييف، المحال، التأريخ).

من أهم مزايا الكتاب، التحديد الدقيق للمصطلحات النقدية المرتبطة بالأساطير الأخروية، وتأصيلها وتجذيرها في ثقافتنا العربية، وذلك في نطاق مدونات الأساطير الأخروية الأولى: كتاب الفتن لنعيم بن حماد، نموذجا، والذي لم نر له أثرا في هذه الكراسة، فلم يقم الكاتب على سبيل المثال باختيار نص ولو صغير من الكتاب للتدليل على ما يطالبنا بالعمل به.

وكتاب الفتن مليء بالأجناس النثرية المتعددة وهو الأمر الذي لو تضمنته الكراسة لظهر للقارئ بروز مثل هذه الأجناس الابداعية التخييلية المتجذرة في عمق الثقافة العربية، حيث مكنتهم من التعبير عن واقعهم وتطلعاتهم بنمط خارج عن المألوف أبرز مثال له في الأساطير الأخروية.

ومن خلال هذه الكراسة وكتابات السلمي يتبين لنا أن عدم وجود تفسير لمفهوم الأسطورة الأخروية هو الذي جعلها مغيبة عن أدبنا، وهو الشيء الذي انتبه له السلمي واتجه إلى الاهتمام بها ومحاولة تفسيرها رغم إسقاطه للسياق الاجتماعي والتاريخي والثقافي الذي تكونت فيه.

وحاول السلمي إدماج هذه الاسطورة الأخروية ضمن نظرية الأدب بعد ما لاقته من الإهمال الديني، فقد أعطاها تعريفا محددا ودقيقا وألحقها بأصلها داخل المنظومة الأدبية التي ظلت لمدة كبيرة غائبة عنه، فالأسطورة إذا بما هي أخبار وأحاديث نثرية، يميزها الباطل وخرق العادة قبل كل شيء، مندرج ضمن منظومة أدبية عامة، هي النثر، ولا سيما السرد.

فالأسطورة بما تحمله من سمات كبرى للسرد، كاف أن يجعلها لونًا من ألوانه، متجاورة مع أشكال أخرى كالحكاية والمذكرة والرحلة… الخ

أخيرا، لابد من الاعتراف بأن الذي كان يشغل الباحث في هذا الكتاب هو تفهم طبيعة هذه النصوص الدينية وتصنيفها في إطارها، وليس القصد إفراغها من معناها، بل إثبات أن هناك ثمة مساحة مشروعة داخل النص الديني، قام نعيم بن حماد باستغلالها وربطها بنصوصه، وقد تطلب من الكاتب ذلك، مسايرة نصوص نعيم الفتنية وسبر أغوارها، قصد إماطة اللثام عن السمات البلاغية المخصوصة التي تتضمنها هذه الأساطير الأخروية وهذا ما لم يحدث من خلال الكراسة، والتي تنقل لنا حكايات خيالية كاملة، لها بداية ونهاية، ذات حمولات دلالية عالية، تقوم على علاقة مكونة من ثلاثة أبعاد هي: فساد الزمان، أشراط الساعة الصغرى، ثم علامات الساعة الكبرى، وعبَر الكاتب عن هذه العلاقة من خلال عنوان الكتاب نفسه (الفتن).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock