الحدث

بول سالم: السياسة الأمريكية حيال إسرائيل لم تتبدل، لكنها باتت أكثر فجاجة

في محاولة لقراءة متعمقة للصراعات الطاحنة والأزمات المتلاحقة التي تجتاح المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، دعت  كلية الشئون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة إلى حلقة نقاشية بعنوان: “تقلبات السياسة الخارجية الأمريكية.. التداعيات على المنطقة العربية”، حاضر فيها الأكاديمي الأمريكي من أصل لبناني، بول سالم، الرئيس الحالي لمعهد الشرق الأوسط بواشنطن، والمهتم بقضايا التغيرات السياسية والصراع والعلاقات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط.

قدم للحلقة التي استمرت على مدى ساعتين، وزير خارجية مصر السابق نبيل فهمي، وأدار الحوار كريم حجاج مدير مركز الوليد بن طلال للدراسات والأبحاث الأمريكية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

المتحدث بدا شديد الإلمام بالقضايا التي تناولها في حديثه، والتي سبق له تناولها في العديد من الكتب والكتابات الصادرة عنه، مثل From Chaos to Cooperation: Toward Regional Order in the Middle East (من الفوضى إلى التعاون: نحو نظام إقليمي في الشرق الأوسط) (2017)، وThe Recurring Rise and Fall of Political Islam (الصعود والهبوط المتكرر للإسلام السياسي)(2015) وThe Middle East in 2015 and Beyond: Trends and Drivers (الشرق الأوسط في عام 2015 وما بعده: التوجهات والمحركات) (2014).

استهل سالم محاضرته باستعراض التقلبات الكثيرة التي تشهدها المنطقة العربية على مدى العقود الأخيرة، والتي زادت حدتها وتسارعت وتيرتها بعد اندلاع ثورات الربيع العربي مع مطلع هذا العقد وما أفضت إليه من فراغ سياسي جراء سقوط أنظمة عتيدة ونشوب حروب أهلية، فضلا عن مخاضات التحول الديمقراطي في تونس، واشتعال الأزمات بين دول مجلس التعاون الخليجي، وتضارب سياسات ومصالح الدول الكبرى في المنطقة.

ورأى سالم أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى انتهاج سياسات تمكنها من التعاطي مع هذه المتغيرات بما يضمن لها استمرار هيمنتها وتحقيق مصالحها، سواء في ظل الإدارة السابقة للديمقراطيين أو بعد تغير الإدارة الأمريكية في عام 2016 وقدوم الجمهوريين بزعامة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

دونالد ترامب

واعتبر أن تقلبات السياسة الخارجية الأمريكية ترجع بالأساس إلى ثلاثة عوامل رئيسة، تناولها تفصيلا في محاضرته، وهي: تعدد مراكز صنع القرار، وتعدد مقاربات الرؤية الأمريكية للسياسة الخارجية، وأخيرا تعدد المصالح الأمريكية في بلدان المنطقة.

صناعة القرار

تتعدد مراكز صناعة القرار الأمريكي بدءا من البيت الأبيض الذي يمثل مؤسسة الحكم، ثم الهيئات الأخرى المشاركة في صياغة القرار أو صاحبة التأثير في صنعه، ومنها وزارة الخارجية التي شهدت حالة من الترهل إبان إسنادها إلى ريكس تيلرسون، ولم ينجح مايك بومبيو حتى الآن في لملمة شعاثها، ووزارة الدفاع التي تنتشر أذرعها في جميع أنحاء العالم وتتجاوز ميزانيتها السنوية 7 مليارات دولار، وجهاز الاستخبارات الذي يمسك في يديه بخيوط اللعبة بوجه عام ولا يمكن معرفة ما يفكر فيه أعضاؤه، وأخيرا المؤسسة الإعلامية التي تشكل ورقة ضغط قوية في صناعة القرار، والرأي العام الأمريكي الذي يمتلك حسم اللعبة السياسية في صناديق الانتخابات.

مقاربات متنوعة

إضافة إلى تعدد مراكز صناعة القرار، تتعدد أيضا المقاربات التي ينتهجها الأفراد داخل المؤسسة الواحدة لمفاهيم السياسة الخارجية. في هذا السياق يبرز سالم ثلاث مقاربات رئيسة تحكم صناعة القرار الأمريكي، هي:

المقاربة الواقعية: التي تضع نصب عينيها كافة القوى وتؤكد على ضرورة خلق توازن استراتيجي فيما بينها.

المقاربة الليبرالية: التي تعلي من شأن القيم التي وضعها الآباء المؤسسون وتجعلها معيارا يتعين على الجميع الالتزام به.

المقاربة القومية: وهي الأكثر تشددا على الإطلاق، حيث تعلي من شأن المصالح السياسية والاقتصادية الأمريكية، وتضعها فوق سائر الاعتبارات، وهي المقاربة التي ينتهجها الرئيس ترامب.

تعدد المصالح

يرى سالم أنه رغم تعدد المصالح الأمريكية في المنطقة العربية، إلا أنها تتحدد وفقا لعاملين أساسيين: النفط، وإسرائيل.

فالنفط يمثل المحدد الأهم للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة العربية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ورغم أن الولايات المتحدة تأتي حاليا ضمن الدول المصدرة للنفط، إلا أن توثيق علاقتها بالمملكة العربية السعودية باعتبارها المنتج الأكبر للنفط في العالم يمثل أحد الوسائل الهامة التي تساعدها على التحكم في أسعاره في السوق العالمية.

أما إسرائيل، فالعلاقة معها تعد محددا محوريا آخر للسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة العربية. ويرى سالم أن هذه العلاقة لا يتم النظر إليها باعتبارها شأن سياسي خارجي فحسب، وإنما باعتبارها أمر داخلي أيضا. ففي الوقت الذي تبدي فيه إسرائيل ارتياحا تاما لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط في عهد إدارة ترامب، خاصة بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإلغاء الاتفاق النووي مع إيران وفرض عقوبات عليها، يبدي اليهود الأمريكيون سخطا على سياسات ترامب الداخلية التي يحكمها نزوعه القومي المتشدد، “وما أحداث تفجير الكنيس اليهودي في بنسلفانيا منا ببعيد”.

ويلفت سالم هنا إلى المساعي الأمريكية الدؤوبة لمنع انتشار الأسلحة النووية في المنطقة العربية والشرق أوسطية بوجه عام، ليبقى هذا السلاح حكرا على إسرئيل.

إدارة المصالح

استعرض سالم مراحل تطور إدارة الولايات المتحدة الأمريكية لمصالحها في المنطقة العربية منذ منتصف القرن الماضي، وما تعكسه من تباين تبعا لمتطلبات كل مرحلة.

وبدأ بمرحلة الحرب الباردة التي امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1949 حتى انفراط عقد الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينيات القرن الماضي، والتي اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية خلالها على دعم حلفائها في المنطقة العربية دون تواجد عسكري مباشر.

ثم انتقل إلى المرحلة الثانية التي اعتبر عنوانها “الصراع ضد إيران”، ورأى أن نجاح الثورة الإسلامية وقيام دولة الملالي في طهران على أنقاض جمهورية الشاه الموالية لواشنطن في عام 1979 جاء بمثابة فرصة للولايات المتحدة الأمريكية لإعادة توجيه دفة الحرب إلى إيران للمحافظة على مصالحها في المنطقة العربية.  وفي هذه الفترة اعتمدت واشنطن على التواجد العسكري المباشر في الشرق الأوسط.

أما المرحلة الثالثة فيمكن اعتبار عنوانها الرئيس “الحرب على الإرهاب”. ويقول سالم إنه على خلفية أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، دخلت السياسات الأمريكية في المنطقة طورا جديدا لا يعتمد فقط على التواجد العسكري الأمريكي، وإنما أيضا على  تغيير أنظمة الحكم غير الموالية للولايات المتحدة (إما معنا، وإما علينا)، وهو ما حدث فعليا في العراق، بخلاف محاولات مشابهة في كل من إيران وسوريا.

وأخيرا تأتي المرحلة الرابعة، أو ما أطلق عليها سالم “مرحلة الحلفاء الاستراتيجيين”، فمع فشل سياسات التدخل العسكري، اضطرت الولايات المتحدة الأمريكية بدءا من عهد الرئيس السابق باراك أوباما إلى الاتجاه إلى سحب قواتها من العديد من مناطق الصراع والاعتماد بدلا من ذلك على حلفاء ووكلاء استراتيجيين، وهو ما تم التراجع عنه، ولو بصورة جزئية لاحقا. ففي أعقاب التجربة الأفغانية التي عززت نفوذ طالبان وظهور تنظيم داعش، تعايشت القوات الأمريكية في العراق مع الإيرانيين، كما أنه من غير المرجح خروجها من سوريا على المدى المنظور وربما البعيد برغم الهزائم العسكرية التي ألحقتها بقوات داعش، وإجبارها على الانسحاب من الموصل والرقة.

تداعيات سياسية

 كانت الولايات المتحدة الأمريكية – ولا تزال – لاعبا أساسيا في تفكيك المنطقة وإعادة هيكلتها. وقد أثرت السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة العربية من خلال محورين أساسيين، هما: المحور العربي الإيراني، والصراع العربي الإسرائيلي.

على صعيد المحور العربي الإيراني، حولت السياسات الأمريكية المنطقة العربية إلى بيئة صراعية ترتكز حول إيران، وهو ما أفضى عبر عقود إلى تقوية الوحش الإيراني إثر إصابته بحالة من البارانويا (يقارب سالم في ذلك بين الحالة الإيرانية والحالة الإسرائيلية)، وتمدده في مناطق انحسار التواجد العسكري الأمريكي، مثل العراق، وفي مناطق الفراغ السياسي العربي التي خلفتها الثورات العربية في مطلع هذا العقد، مثل سوريا واليمن، ، كما أدت السياسات الأمريكية في الوقت نفسه إلى إضعاف القوة العربية المضادة.

ويرى سالم إمكانية تخلص واشنطن من أسطورة الوحش الإيراني على المدى البعيد عبر تجسير علاقات تدرجية طويلة الأمد مع طهران، مع المحافظة في الوقت ذاته على رفض التغول الإيراني في المنطقة العربية سواء بصورة مباشرة أو عبر وكلائها في سوريا ولبنان واليمن والخليج. وفي هذا السياق يشير أيضا إلى المكاسب الاقتصادية والسياسية التي حققتها طهران من اتفاقها النووي مع إدارة الرئيس أوباما، ورهان طهران على عنصر الزمن أملا في عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض بعد سنتين، كما يؤكد وجود عناصر داخل الكونجرس الأمريكي بغرفتيه (النواب والشيوخ) ترفض سياسات ترامب التي تعمد إلى إشعال فتيل الصراعات في المنطقة من أجل مزيد من صفقات بيع السلاح.

أما المحور الثاني، المتمثل في الصراع العربي الإسرائيلي، فهو أيضا ركيزة أساسية للسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة العربية. فبعد اتفاقية كامب يفيد سارعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى خلق واقع بديل يفرض الدولة الإسرائيلية باعتبارها الدولة الوحيدة على الأرض الفسطينية، ويقضي نهائيا على حلول الدولتين، أو الدولة ونصف الدولة (دولة فلسطينية تتحكم في ملفات ثانوية لكنها لا تتمتع بسيادة كاملة).

ويرى سالم أن الصراع العربي الإسرائيلي قد تلاشى نهائيا، وتحول إلى صراع فلسطيني إسرائيلي، ويشير في هذا السياق إلى ما يسميه “علاقة العداوة الحبية” مع سوريا، ودعم تل أبيب لنظام الأسد، وإلى زيارات رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى عمان، ووزيرة الثقافة الإسرائيلية إلى الإمارات مؤخرا، بخلاف هرولة كثير من الأنظمة العربية باتجاه التطبيع وارتباط مصالحها بالمصالح الإسرائيلية بصورة مباشرة. كما يرى أن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إسرائيل لم تتغير كثيرا في عهد ترامب، لكنه فقط “يمارسها بصورة أكثر فجاجة”.

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock