رؤى

استهداف الأزهر وجدل النقاب.. معارك الوهم باسم الحرية والدين

لم تلبث الأقلام أن هدأت قليلا عن الخوض في الأزهر وشيخه ومناهجه التعليمية وتحميل الخطاب الديني في أعلى مستوياته (الأزهر الشريف) مسؤولية أعمال إرهاب جماعات خوارج معاصرة تستهدف الانقضاض على الدولة ومؤسساتها وقوانينها وتقويضها بالقوة المسلحة، حتى انطلقت الأقلام والأفواه في جدل حول قضية منع وحظر النقاب، وهي قضية يتم استدعاءها جوف الفراغ من وقت لآخر.

في البداية اعتبر بعض دٌعاة الاستنارة ممن يتصدرون مشهد المناداة بالحداثة والتنوير أن الأزهر صاحب حمولة فكرية مٌلغمة بأفكار دافعة للكراهية ومحفزة للعنف ضد الآخر الديني، ما يستدعي –في نظرهم- أن يطاله التغيير الفوري من مفرق رأسه ممثلا في شيخه حتى أخمص قدميه ممثلة في المعاهد الدينية في القرى والريف والأحياء الشعبية.

وتواكب ذلك مع معركة كلامية أخرى أشد وطيسا استهدفت أفئدة البسطاء والعوام الغيورين على الدين والمتحفزين ضد أي محاولة للنيل منه، بإثارة مظاهرة مٌخادعة حول الدفاع عن النقاب باعتباره زيا إسلاميا أصيلا، وبالتالي، فإن أي نقاش حول مدى إلزامية ارتدائه للمرأة المسلمة من عدمه، أو المناداة بحظره في أماكن بعينها، هو  بمثابة هجمة على الإسلام ذاته، أو على حسب تعبيرات سلفية أكثر “فزلكة” محاولة لعلمنة الدولة والانقضاض على الهوية الإسلامية.

والحقيقة أن كلا المعركتين معارك وهمية لا أساس لها من الواقع، فالمعارك من هذا النوع لا ينتجها إلا خطاب إقصائي عدمي، لا حداثة  فيه ولا دين، يكرس انقسام المجتمع والدفع به إلى معادلة صفرية وجودية: إما نحن أو انتم. وهذا النهج في التناول يناقض أسس الدولة الحديثة التي تعلي قيمة الحريات العامة، وبالأخص حرية التدين والعبادة باعتبارها أحد ركائزها الحضارية، كما أنه يناقض تعاليم الإسلام السمحة التي أوجزت فلسفتها الإيمانية في آيات من قبيل: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”، يونس 99 .

رغم ذلك، ثمة مساع دائمة لإثارة هذا النوع من الجدل المحتدم حول قضايا وهمية، والعمل على تضخيمها، لخلق معارك جانبية صاخبة تملأ الفراغ  في فترات الخواء الفكري والصمت الاضطراري، سعيا لبطولات وهمية في معارك أكثر وهمية، فأي منصف عاقل يدرك أن الأزهر لم يكن يوما حاضنة للإرهاب أو محرضا عليه، كما لا يمكن اعتبار إزاحة شيخه أستاذ الفلسفة السوربوني ضربة موجعة لجماعات عنف وجمود ديني لا يمثل لها الأزهر مرجعية دينية، وأيضا، فإن النقاب لم يكن يوما عنوانا لسلامة عقيدة المرأة المسلمة، أو حصنا للإسلام الحق، كما يتوهم من يصرخون بفرضه أو خلعه إلهاء لعوام المتدينين.

من يتحرى الإنصاف يدرك أن الأزهر – رغم محافظته-  أفرز على مدار القرنين الماضيين العديد من زعامات الفكر والتنوير ابتداء من شيوخه الرواد الأوائل مثل المرصفي وحسن العطار، ومرورا برفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، ومصطفى عبدارازق، وعلي عبدالرازق، وحتى طه حسين. كل هؤلاء تبنوا مبكرا الدعوة إلى تطوير قواعد الفكر والمنهج الأزهري، بل وصلت رغبة التحديث عند بعضهم من القوة إلى حد تعبير الإمام محمد عبده بأن هذا الأزهر يستحيل بقاءه على حاله، فهو إما أن يٌعمر أو يٌخرب، بمعنى أن صلاحه في إعماره بالانفتاح على كل جديد.

ربما يكون الفهم القاصر لعبارة محمد عبده قد أغرى الكثير من المتلهفين على تحديث الدولة للنداء بتخريب الأزهر والتخلص منه ومن شيخه، حتى لو كان شيخا مستنيرا أعاد الثقة إلى مؤسسة الأزهر العريقة منذ توليه بالحفاظ على استقلاليته، واستعادة جمهوره الذي لجأ في فترات غياب الأزهر ليستقي فتاواه من مشايخ سلفية تستلهم مناهجها من وهابية بدوية خلفت لنا قضايا الإرهاب واستباحة الدماء تحت شعارات دينية مضللة، فلم يخبرنا التاريخ القريب أو البعيد عن تحرك طائفي ديني قادة من استقى علمه من الأزهر صوب كنيسة أو دير.

وأي منصف أيضا لا يمكن أن ينزلق إلى اعتبار الجدل الصاخب حول النقاب يمثل أولوية في سعينا جميعا أن يستعيد الدين مكانته المستحقة في مجتمعاتنا وحضارتنا المعاصرة، فالنقاب ليس القضية الأهم في المعركة ضد قوى الظلام والرجعية، وهو مجرد مظهر للتأثر بأفكار وقراءات مغلوطة ورؤى فقهية شاذة، ولا يعدو أن يكون سلوكا شخصيا يخضع لضوابط الدولة في تنظيم الحريات العامة والشخصية بما لا يخل بقواعد العيش المشترك وحماية أمن مواطنيها.

ختاما، فإن الانسياق وراء مثل تلك الدعوات القاصرة يوقعنا في محظور ترك الساحة الدينية لحالة من الفراغ بلا مؤسسة دينية معتدلة تمثل المرجعية، وحتى لو كانت محافظة، وبالتالي يصبح العوام والبسطاء من الناس نهبا لدعاة التطرف والعنف والتكفير، ولن تفلح وقتها الخطابات الحداثية بمناهجها التفكيكية والبنيوية التي يصعب فهمها أن تجد سبيلا إلى الشرائح الواسعة من الجماهير، فالحضارات المادية التي أفرزت تلك المناهج لم تنجح في إشباع العاطفة والفراغ الروحي لدى مواطنيها الذين راحوا يستعيضون عنها باستدعاء ديانات غير سماوية، كالبوذية وغيرها، حتى في أعتى معاقل العلمانية تطرفا كفرنسا وسائر بلدان الغرب، بل وصل الأمر بالبعض هناك إلى تبني عقائد منحرفة، كعبادة قوى الشر ممثلة في الشيطان.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock