رؤى

طارق البشري شاهدا على «الإخوان».. رؤى ملتبسة (1)

كثيرون اندهشوا لوجود المفكر والفقيه القانوني طارق البشري رئيسا للجنة تعديل الدستور المصري في أعقاب ثورة يناير 2011،  صحيح أن الجميع كانوا يرون البشري قريبا من جماعة الإخوان فكريا، لكن لماذا رشحته الجماعة وآثرته على غيره لهذا الدور اللافت والملتبس في الحقيقة، الذي لا تعطيه الجماعة إلا لمن تثق بولائه لها ولمشروعها.

لن تزول دهشتنا عندما نتصفح آراء الرجل حول الجماعة والتي تبدو متناقضة إلى حد كبير، فهو يعتبرها امتدادا طبيعيا للحركة الوطنية المصرية التي تحترم الموروث في مواجهة الوافد الذي حاربته، بينما في مواطن أخرى يتحدث عن استبداد حسن البنا برأيه وتفكيره منتقدا موقف الجماعة من الحركة الوطنية المصرية، لكن هكذا كانت نظرة الرجل، فدعونا نحلق مع ما قاله عبر بعض كتبه ودراساته:

“حركة الإخوان خلال السنوات العشر الأولى لها لم تكن حركة اجتماعية أو دينية فقط، بل كانت ذات لون سياسي مستتر نوعا ما، وفي مايو 1938، أصدرت الجماعة مجلة “النذير” (سياسية أسبوعية)، واتخذ عملها السياسي أسلوبا سافرا، وتواكب ذلك التوقيت مع انقضاء عامين على إبرام معاهدة 1936 التي هزت شعبية الوفد جراء مشاركته في إبرامها.

منذ هذه اللحظة خاطب البنا أنصاره: “ستخاصمون هؤلاء جميعا (الأحزاب ورجال السياسة) في الحكم وخارجه خصومة شديدة لديدة إن لم يستجيبوا لكم”..

ويعلق البشري: “وقع الشقاق داخل الإخوان بين من رغب من أعضائها، أن يقتصر نشاطها على شؤون الدين والبر فقط”. بهذه الفقرات يؤكد البشري أن جماعة الإخوان حزب سياسي منذ وقت مبكر، وأن مظلة العمل الدعوي والتربوي والإغاثي لم تكن سوى شكل من أشكال التعبئة التي بدت مناسبة لطبيعة الشعب المصري في هذه المرحلة وغيرها من المراحل. وفي الحقيقة، فقد ساهم تراجع معدلات التنمية وفشل الحكومات المتعاقبة في كفالة الرفاة للمواطنين، بل قل الحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، في ترك مساحة كافية لتمدد جماعات مثل جماعة الإخوان،  كما أحسنت الجماعة فيما يبدو اختيار لحظة التجلي السياسي مع إبرام الوفد لمعاهدة 1936.

عبر البشري عن توجهات الجماعة السياسية بكلمة “المستتر” ربما إشفاقا من استخدام تعبير “التقية”، الذي يشير إلى أن الحركة ذات نفس شيعي عبر عن نفسه في العديد من المحطات.

العنف والسياسة معا

يلفت البشري أيضا إلى أن فكرة العنف واستخدام السلاح لم تطرأ مع إنشاء النظام الخاص، بل مع انشاء فريق الجوالة في العام 1937 “بالرغم من أن قانون الكشافة كان يحظر على الكشافة أن تنتمى إلى أي جماعة سياسية أو دينية، ذكر قاتل النقراشي في التحقيق أن انتقاله من نظام الجوالة بالإخوان إلى النظام الخاص (التنظيم الإرهابى بالجماعة) قد تم دون أن يشعر بأن تغييرا طرأ على وضعه، لاتفاق النظامين في التدريبات وأسلوب التعامل والعلاقات داخل التنظيم.

البنا وفقا لشهادة البشري كان يؤمن بالعنف والسياسة معا في ازدواجية لم تغادر الجماعة منذ النشأة ولا تزال تنتج آثارها حتى اليوم، رغم أن البشري لم يحلل هذه الظاهرة أو يلتفت لها بشكل كاف.

مخاصمة الأماني الوطنية

درجت الجماعة على مخاصمة الأماني والمعارك الوطنية بتعبئة الشباب في مساحات إشغال بعيدا عنها، ولطالما حلقت خارج السرب الوطني.. وهنا يشير البشري إلى أنه “في أواخر صيف 1945 عندما بدأ الشعب يتحرك مطالبا بالاستقلال والحرية، منعت حكومة النقراشي كل الاجتماعات والمؤتمرات الشعبية، ولكنها سمحت لجماعة الإخوان أن تعقد مؤتمرها العام لنواب الأقاليم”.

وضعت دعوة الإخوان حركة الاستنارة الفكرية إلى جانب النشاط التبشيري، ودعت إلى النظر إليهما باعتبارهما هجوما واحدا على الإسلام، واستقر ذلك في عواطف الكثيرين. ويعترف البشري هنا أن الجماعة خاصمت الحداثة الغربية واعتبرت التنوير الذي أطلقته هذه الحداثة شكلا من أشكال التبشير الذي قاومته الجماعة.

يلمس البشري نقطة بالغة الأهمية تتعلق بتكوين الجماعة لأعضائها وكيفية السيطرة التامة عليهم، ويلفت الانتباه للميكانيزم الذي صممته الجماعة لجعل ذلك ممكنا يقول:

“لم تكن الجماعة تكتفي بعمل العضو بين صفوفها في اللجان المختلفة، ولكنها تضعه كفرد بين عدد ضخم من الواجبات تحيط بحياته كلها وترسم له أعماله وسلوكه اليومي وعلاقاته الشخصية، وتنصحه حتى بالتزام طريقة معينة في التحدث والضحك، وبهذا يذوب الأفراد في الجماعة وفي زعيمها المجسد لها المبايع على السمع والطاعة”.

درب البنا أعضاء التنظيم على الانصياع الكامل، وكان كل ذلك معلقا ومربوطا في يد فرد لا يعرف له موقف محدد صريح في أي مسألة، ولا يمكن التنبؤ بما سيتخذ مستقبلا من خطوات، وأصبحت الجماعة بهذا كالقنبلة التي لا يعرف متى تنفجر ولا من سيكون ضحيتها.. أظن أننا عرفنا وعشنا توقيت انفجارها، وعرفنا أيضا من كان الضحية، وعشنا جميعا أجواء الانكشاف الأخلاقي والسياسي لجماعة قدمت نفسها حتى لمفكر بوزن البشري باعتبارها حاملة لواء الأصالة والمعاصرة، رغم أنها ووفقا لكتابات الرجل نفسه لم تكن سوى موجة من موجات الرجعية استهلكت أعمار وجهود بعيدا عن خدمة قضايا كانت أولى بالرعاية والاهتمام.

أحمد بان

كاتب و باحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock