فن

منديل الست

مَثل منديل أم كلثوم جزءا هاما من شكل حفلاتها الغنائية، فلا حفلا تقيمه دون أن تظهر قابضة بيدها على منديلها.. مما أثار تساؤلا مشروعا عن سر استمساك مطربة العرب الكبرى بهذا “الطقس” إن جاز التعبير.

نشأت أم كلثوم في بيئة دينية محافظة، فأبوها الشيخ إبراهيم البلتاجي، منشد القرية ومؤذن المسجد، وهو أيضا أستاذها الأول، الذي قرر اصطحابها لإحياء اليالي بعد أن اكتشف إرهاصات صوتها الخطير وقدرتها الفائقة على حفظ النصوص والألحان… كان محصول الشيخ إبراهيم دينيا صرفا.. قصائد مديح، وموالد، وموشحات، وبعض قصائد الغزل الصوفي الذي تُحمل كلمات الحب والعشق فيه على غير ظاهرها.

حين قرر الشيخ إبراهيم اصطحاب ابنته للغناء أول مرة، ألبستها أمها ملابس ولد صغير.. بالطو وعقال بدوي.. ظلت الطفلة أم كلثوم تجوب القرى مع أبيها بهذه الملابس.. وتغني أمام الجمهور بجرأة عجيبة.. لا تهتز ولا تخجل.. وانتشر صيتها في المراكز المجاورة، ثم محافظات الوجه البحري.

ملابس أم كلثوم، ومحتوى ما تنشده، وطريقة المشايخ التي تغني بها، مع بيئتها المحافظة.. كل ذلك جعل الفتاة الصاعدة في عالم الفن شديدة الحذر نحو أي تغيير.. قاوم والدها لفترة طويلة مقترحات الشيخ زكريا أحمد والشيخ أبو العلا محمد بالانتقال إلى القاهرة.. واستغرق الشيخ إبراهيم عدة سنوات قبل أن يقبل بترك طماي الزهايرة عام 1923.

في إحدى حفلاتها ممسكة بالمنديل

جاءت أم كلثوم إلى القاهرة، بصخبها ومسارحها وصفوة أهل الفن فيها، بنفس تلك الملابس التي اعتادتها.. كما جاءت أيضا بمحصولها الرصين من القصائد والموشحات، ومكثت فترة طويلة تغني ومن خلفها “بطانة” مكونة من أبيها الشيخ إبراهيم، وشقيقها الشيخ خالد، وبعض أقاربها.. دون تخت موسيقي، أو غناء عامي.

لكن المجتمع الفني في القاهرة، أدرك خطورة الموهبة القادمة من ريف الدقهلية، فأفرز نخبة من كبار المهتمين بالموسيقى والغناء الشرقيين لرعاية أم كلثوم، وتثقيفها، وتهذيب غنائها.. كانوا بالنسبة لها هيئة مستشارين عالية المستوى، توجه وتعلم، وتقدم الاقتراحات، وتزيل العقبات.

شملت هذه النخبة عددا كبيرا من أعلام الفن والأدب في ذلك العصر.. أحمد رامي، الشاعر الذي سيهب عمره كله لها، محمد القصبجي، الموسيقار المجدد، الذي ذاب فيها حبا وإجلالا، مصطفى بك رضا، الموسيقي الهاوي، عازف القانون الكبير، مؤسس نادي الموسيقى الشرقي، أمين بك المهدي، عازف العود المقتدر وأحد هواة الموسيقى والفن، على بك البارودي، أحد أشد أنصار أم كلثوم، وصاحب الدور الكبير فيما طرأ عليها من تغيير.. وعلى رأس كل هؤلاء، الشيخ الجليل والمفكر الأزهري الكبير مصطفى باشا عبد الرازق.

فرضت موهبة أم كلثوم نفسها على شركات الاسطوانات، وسجلت النجمة الصاعدة عددا من القصائد الرصينة، بصحبة تخت صغير.. لكنها ظلت تغني على المسرح، بملابسها البدوية، وبصحبة بطانتها.. والأهم من ذلك.. بدون تخت موسيقي.

هيئة المستشارين تهامست فيما بينها.. لابد لهذه الفتاة أن تقبل الغناء بصحبة التخت.. فاتح بعضهم والدها بالفكرة، فلم يجد إلا صدا وإعراضا: “احنا فلاحين”.. لكن المحيطين بأم كلثوم لم ييأسوا.. كرروا المحاولات، وأشاروا إلى حالة التناقض: كيف تسجل أم كلثوم الأغنية في اسطوانة، ويسمعها الجمهور من خلالها تغني بصحبة التخت، ثم تأتي على المسرح لتغني نفس الأغنية دون موسيقى؟.. وأخيرا وافق الشيخ إبراهيم.

على مسرح الأوليمبيا بباريس ممسكة بمنديلها

رأت هيئة المستشارين كذلك، أنه من الضروري أن يكون التخت مكونا من أمهر العازفين، واتفقوا أن محمد القصبجي هو خير من يشرف على هذه المسألة.. كلموه ووافق.. محمد أفندي العقاد (الكبير) على القانون، سامي الشوا، على الكمان، محمود رحمي على الرق.. ثم كانت المفاجأة.. محمد القصبجي، الموسيقي الشهير والملحن الناجح قرر أن يكون هو عارف العود في تخت أم كلثوم.

موافقة أم كلثوم على الغناء بصحبة تخت، شجعت هيئة المستشارين على أن يتكلموا فيما تجنبوه طويلا.. ملابس أم كلثوم.. كيف ستغني الشابة الواعدة لأول مرة على تخت موسيقي وهي ترتدي تلك الملابس البدوية؟.. بذلوا جهودهم في إقناعها وإقناع والدها ونالوا ما أرادوا.

وحان الموعد.. الليلة سيستمع رواد المسرح إلى أم كلثوم وهي تغني لأول مرة بصحبة تخت موسيقي، وبملابس عصرية قاهرية.. القاهرة تترقب.. الشيخ مصطفى عبد الرازق يرسل برقية تحمل أمنيات التوفيق والنجاح.. قبل رفع الستار شعرت أم كلثوم برجفة وخوف.. طلبت ممن حولها أن يعطوها منديلا.. أرادت أن تفرغ فيه ما يعتريها من قلق، وتجفف به يدها التي تتعرق من الرهبة.. من تلك اللحظة لم يفارق المنديل يد أم كلثوم في حفلاتها الغنائية قرابة نصف قرن.. وحتى حفلها الأخير في 5 يناير 1973.

وعلى مدار عقود، أصبح منديل أم كلثوم جزءا أساسيا من تقاليد محافلها.. كالدقات التقليدية التي تسبق رفع الستار، أو تعليق الميكروفون متدليا، أو الترتيب البروتوكولي لجلوس العازفين خلفها.. شاهدته الجماهير في مسارح الأزبكية، وقصر النيل، وقاعة إيوارت، ونادي الضباط، وجامعة القاهرة، وغيرها من مسارح مصر التي شدت فيها كوكب الشرق.. وكذلك شاهدته جماهير الدول التي زارتها أم كلثوم: فلسطين، لبنان، سوريا، العراق، المغرب، تونس، ليبيا، السودان، الكويت، الإمارات، وباريس… وكما تطورت أم كلثوم تطور منديلها.. فبعد أن كان مجرد منديل محلاوي، أصبح يصنع من الشيفون الفاخر، بنفس لون فستان الست، أو متجانسا معه.

رحلت أم كلثوم في 3 فبراير عام 1975، وشيعتها الجماهير في جنازة مليونية مهيبة.. وبقي منديلها في الذاكرة.. في أكتوبر من العام 1999، أقامت منظمة الأغذية والزراعة “الفاو” مزادا علنيا بفندق شهير بالقاهرة، لبيع مقتنيات المشاهير، لصالح فقراء العالم.. وحضر المزاد عدد من نجوم الفن: النجمة الإيطالية العالمية جينا لولو بريجيدا، ومعها بعض النجوم الايطاليين، ومن فناني مصر سميحة أيوب، وكمال الشناوي، ويسرا، وإلهام شاهين، وصفية العمري.. ومن النجوم العرب الفنان السوري صباح فخري، والتونسي لطفي بوشناق، وعدد كبير من رجال الأعمال ونجوم المجتمع.

منديل لأم كلثوم في متحفها بالقاهرة

وفي المزاد، بيع عود صباح فخري مقابل ـ3 آلاف دولار، وقلم نجيب محفوظ 6 آلاف دولار، وعود لطفي بوشناق 6 آلاف دولار، وقفاز الملاكم اليمني البريطاني نسيم حميد 3 آلاف دولار، وفستان للفنانة صباح بألفي دولار، وباعت الإيطالية جينا لولو بريجيدا فستانا له مقابل 15 ألف دولار، وبيعت رسائل بخط عبد الحليم حافظ بـ20 ألفا، وعصا سعد الدين وهبة بـ30 ألفا… ثم ظهر منديل أم كلثوم.. فحصد 5 ملايين دولار.

 

هيثم أبو زيد

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock